نكبة الترحيل عن فلسطين
في ذكرى نكبة عام 1948 التي حلّت بشعب فلسطين، يبقى مسلسل النكبات مستمراً. إسرائيل لم تتوقف عن سياساتها التقليدية وإجراءاتها ضد الشعب والأرض، وتمكنت أن تضيف عناصر عربية وفلسطينية متحالفة معها في مواجهة الصمود الشعبي الفلسطيني.
ما بين الصمود والرحيل
لم تكن سياسات منظمة التحرير الفلسطينية الخاصة بصمود السكان على مستوى التطلعات، والكثير من الأموال لم تكن تصل إلى مستحقيها. وكذلك كانت سياسات الأردن التي فتحت الجسور وقبلت بهجرة الفلسطينيين التدريجية، واستخدمت الأموال أيضاَ من أجل تعزيز مؤيدي النظام في الضفة وغزة. كانت السياسات عامة موجهة نحو مصالح القيادات دون مصالح الشعب، وكانت صرخات دعم الصمود تبدد في الغالب في أجواء الفساد المالي. يبدو أن شعار الصمود قد تراجع في السنوات الأخيرة ليطغى عليه شعار الرحيل. أعداد متزايدة من شباب فلسطين يتطلعون إلى الرحيل بسبب عوامل الطرد الداخلية، ويبحثون عن إمكانات الهجرة إلى دول مثل السويد والنرويج وكندا وأستراليا والولايات المتحدة. هناك من هاجروا من الضفة الغربية وقطاع غزة بالفعل، لكننا لا نملك إحصاءات، ولا حتى أرقاماً تقريبية تعطينا مؤشراً حول مدى استجابة الدول المعنية بالطلبات المقدمة من قبل فلسطينيين. الحديث عن الرحيل مترافق مع هبوط واضح في معاني الصمود والوطنية والتضحية من أجل الوطن، وفي معاني المصير المشترك، وحق تقرير المصير، وفي تراجع عقلية العطاء والتحرير لصالح العقلية الاستهلاكية والمصالح الخاصة. وقد تراجعت قيم الوطنية والالتزام إلى درجة أن التنسيق الأمني مع إسرائيل أصبح مقبولاً من قطاعات واسعة من الناس، وإلى درجة أن الاعتراف بإسرائيل أصبح أمراً عقلانياً لا يستحق رافضه سوى الاتهام بالتطرف والانتماء إلى عقلية قديمة متحجرة.
هناك عوامل طرد فلسطينية تنسجم مع سياسات التهجير الإسرائيلية، أسوق منها:
ثانياً: ترافق مع اتفاق أوسلو مزيد من الاستقطاب الفصائلي والتوتر الداخلي الفلسطيني، وانتهت الأمور إلى اقتتال دموي أدى إلى ما هو عليه الشعب الآن من تفسخ وانقسام. كنا نختلف قبل الاتفاقيات على أساليب ووسائل النضال الوطني، لكننا أصبحنا نختلف بعد الاتفاقات على النضال الوطني نفسه، وعلى الوطن. ثالثاً: أخذ يتعرض فكر المقاومة إلى هجوم داخلي متواصل إلى درجة أن بعضنا أصبح يسميه إرهاباً. المقاومة أصبحت تهمة تعبر بصاحبها إلى سجون الصهاينة وسجون الفلسطينيين، وتحول المقاوم إلى الاغتراب المؤلم الذي لم يعد يشعر معه أنه في بيته أو وطنه. رابعاً: حال التعصب الفصائلي دون إقامة برامج ثقافية واجتماعية وفكرية فلسطينية، وتحولت الأجواء الثقافية والاجتماعية إلى أسواق فصائلية مفرغة من المحتوى والمضمون، وأدت في النهاية إلى مزيد من التيه الفلسطيني والضياع. خامساً: حالت سياسات الفصائل الفلسطينية دون البحث عن كفاءات الشعب الفلسطيني، وأصبح التوظيف مرتبطاً بالانتماء الفصائلي وليس بالانتماء الوطني، بالانصياع والولاء، وليس بالكفاءة والمؤهلات، بالنفاق والدجل وليس بحصافة الرأي والقدرة على العطاء. تصدر الجهلة وغير القادرين والفهلويون المشهد العام، وتراجع أصحاب العلم والمعرفة، وأهينوا في كثير من الأحيان من قبل من لا عقول في رؤوسهم ولا أخلاق في سلوكهم. سادساً: في المجمل العام، هناك ممارسة عنصرية في الداخل الفلسطيني، وهي عنصرية الفصيل، وعنصرية تأييد الاتفاق مع الصهاينة، وعنصرية ارتداء غطاء الرأس من عدمه، وعنصرية مكان السكن، الخ. هذه عنصرية تخدم سياسات فرق تسد، والتي بدونها لا يستطيع من يتمسك بكراسي الحكم أن يستمر على كرسيه. سابعاً: هناك صراع على الرواتب والمراتب، وطبعا بين الذين لهم حظوة لدى الماسكين بزمام المال، ولا مجال أمام الذين لا يشاركون في هذا الصراع إلا الانزواء أو الهروب. ثامناً: كان الشك السياسي والأمني قيمة أساسية بين الناس في سنوات خلت بسبب تغلغل أجهزة مخابرات مختلفة بين الصفوف، لكن الشك ازداد بعد الاتفاقات مع إسرائيل وبعد الانقسام، وأصبح الفلسطيني لا يأمن أخاه. حياة الشك قاسية وصعبة، ولم يعد هناك اطمئنان حتى للحيطان التي بات لها آذان. لم تعد العلاقات بين الناس تقوم على الثقة المتبادلة، وإنما على الشك المتبادل الذي ينسجم مع منظومة قيمية وطنية منهارة.