صُنع ليخدم
هذا العنوان كلّلت به الباحثة مارين بينيلد، في مجلة لو موند دبلوماتيك، دراستها حول دور الميديا في صناعة الرئيس الفرنسي الجديد، إيمانويل ماكرون. وهي بالطبع لا تقصد خدمة الميديا بما هي عليه من أدوات، وإنما خدمة مراكز القوى التي تمثّلها هذه الوسائل."أنا من انتبهت إليه، أنا من اخترعته "يقول بفخر جاك أتالي، أتالي المستشار اليهودي المؤيّد بقوة لإسرائيل، والذي احتل المكتب المجاور لمكتب ميتران طيلة فترة حكمه، وخرج من الحياة السياسية بفضيحة مالية كبيرة (طالته وأخاه) تتعلّق بسرقة أموال بنوك وتحويلها إلى إسرائيل. منذها لم نسمع صوته، وها هو يعود اليوم من اختار شاباً مغموراً وجعل منه شيئاً ثم رئيساً.
ميزته أنه اخترع – أو اخترعوا له – طريقة جديدة لتسويق الأفكار النيوليبرالية التي كلّفت هولاند رقماً قياسياً في تدني مستوى الشعبية. مُترجماً، بإخراج جديد، صراعاً مركزياً كبيراً داخل الحزب الاشتراكي منذ الستينات (كما داخل يمين الوسط)، بين تيّار نيوليبرالي أطلسي يُنافس اليمين على اللوبي المالي. وبين تيّار يساري حقيقي، ما أدّى تاريخياً إلى العديد من حركات الانشقاق لرموز قوية في الحزب، منها جان بيير شفينمان وأبرزها جان لوك ميلانشون. دور ماكرون هذا هو ما جمع حوله صحف عُرِفت بيساريتها !!! مثل لو موند، ليبراسيون، نوفل أوبسرفاتور. وصحف يمينية مثل الأكسبرس. بل إن هذا الشاب الذي أتقن دوره المسرحي قد وجد من يساهم في حملته في جميع وسائل الإعلام الفرنسية ، وهنا تفهم ملاحظة الباحثة حول دور هذه الوسائل في صنعه، كي يأتي ويخدم اللوبيهات التي تقف وراءها.
وبقدر ما تُحيلنا هذه الملاحظة إلى واقع المعركة الانتخابية الرئاسية الأخيرة، بقدر ما تُحيلنا إلى تناول الإعلام التقليدي لجميع القضايا السياسية الداخلية والخارجية، ومستوى التضليل والتحوير الذي ربما تتجاوز في مجاله الميديا الفرنسية زميلاتها الغربية الأخرى. بل إلى طبيعة كون معظمها سلاحاً يصقل بعناية ليستلّ وقت الحاجة في أوركسترا تبدو غريبة في الظاهر، ولكنها تفهم تماماً عندما يتم التدقيق في اللوبيهات التي تحكمها. وفي مقدّمها اللوبي اليهودي – المالي – الأطلسي. وإذا كنا قد سبق وتناولنا في هذه الزاوية تناغم اليمين واليسار في حملة الصوَر التي رافقت معركة حلب مثلاً أو مسألة خان شيخون ، فإن ذلك يُحيلنا إلى تذكّر الأوركسترا التي كانت تضجّ مشتركة خلال عام 1991، والضغط على ميتران للاشتراك في الحرب على العراق ، أوركسترا تابعناها يومياً في حينه وكتبنا عنها الكثير، ولكن أبرز من تحدّث عنها رسمياً كان الوزير جان بيير شفينمان في كتابه ( فكرة معينة عن الجمهورية تقودني إلى )، الذي ترجمته إلى العربية بعنوان " أنا وحرب الخليج" حيث تحدّث بجرأة وصراحة عن دور الصحافة المُرتبط بدور اللوبي. وهنا كمنت جرأته، في استعمال مصطلح اللوبي، بوضوح لا يجرؤ عليه سياسي فرنسي.
بعد وفاة ميتران ، اعترف عدد من مستشاري ميتران ومنهم جان دانيال ، بأن ميتران نفسه كان يشكو من ضغط "اللوبي" خاصة في سنواته الأخيرة، ولكنه لم يجرؤ على التصريح بذلك علناً. عملياً كان الضغط يتّجه نحو "الارتماء في ذيل التنّورة الأميركية"، على حد تعبير شفينمان ، وعلى الركوع للوبي المالي ، خاصة بعد المعركة العنيفة التي دارت في عامي 82- 83 بينه وبين الولايات المتحدة الأميركية حول أنبوب الغاز الروسي، وحول الدولار واليورو ، وحول الصناعات التكنولوجية . يومها قال لمستشاريه : ديغول حارب كي لا يُخضِع فرنسا للأطلسي عسكرياً وأنا سأقاتل كي لا أخضعها اقتصادياً. لكنه فشل ووقّع على فشله حين قبل بدخول حرب الخليج عام 1991. ولم يكن دور الميديا التي عرف اللوبي كيف يمسك برقبتها ،إلا دوراً مركزياً في هذا الفشل.
في مثال تفصيلي، تحدّث شفينمان عن دور خطير لمجلة "لو كانار أنشينيه" في موضوع العراق، ولعبت هذه الصحيفة نفسها الدور الخطير في قضية الرسوم المُسيئة للرسول ، وفي الحملة الرئاسية الأخيرة، كانت هي من سرّب المعلومات التي اعتُبرت فضائح لفرانسوا فيون ، حيث كشف مؤخراً أن من كان وراء هذا التسريب هي رشيدة داتي، وزيرة ساركوزي وصديقته والتي صعدت السلّم السياسي بدعم سيمون فيل. عملية الحرب على فيون ، لم تكن لتختلف عن انسحاب هولاند من المعركة ، ولا عن اختيار هامون مرشحاً للاشتراكي ، ولا عن إزاحة جميع أقوياء يمين الوسط من الساحة ، كلها كانت عمليات كنس الطريق كي لا يبقى أمام الناخب الفرنسي إلا إثنان : السيّىء والأسوأ . وهنا يصبح دور الميديا في تسويق الاختيار مسألة سهلة.
لقد تحدّث الباحثون عن عمليات فوتو شوب أجريت على مُلصقات صوَر ماكرون ليبدو أكبر سناً، بما يناسب الرئاسة، وهنا يُطرح التساؤل: هل كان ترشيحه ومعركته كلها عملية فوتو شوب مُتقنة تمّت على يد خبراء مُحنّكين؟ لكن سؤالاً آخر يُطرح باهتمام: لم يعتمد الخصم الحقيقي لماكرون، جان لوك ميلانشون على الميديا التقليدية، ورغم ذلك صعد إلى نسبة قاربت العشرين بالمئة، فهل كان الفضل للميديا الجديدة، أم لأمور أخرى أهم وأخطر؟ هذا ما سنبحثه في المرة القادمة.