الجماعة الإسلامية في لبنان: مراجعات وتحديات
بعد مرور 10 أشهر تقريباً على انتخاب عزّام الأيوبي أميناً عاماً، خرجت الجماعة الإسلامية في لبنان بوثيقتها الجديدة التي حملت "رؤية وطن" في مؤتمرها العام الذي عُقد في الرابع عشر من أيار الجاري في العاصمة بيروت حيث قدّمت الجماعة رؤيتها الشمولية الجديدة ضمن محاور أساسية أربعة: هي البناء القيمي، والبناء المؤسسي، والبناء المجتمعي، وبناء الدولة، غير متناسية لدور المرأة أو الشباب في مشروعها.
لتقييم "رؤية وطن" تقييماً سليماً، يقتضي الإنصاف أن تُقرأ في مجالاتها ومضامينها المطروحة والمختلفة. وهو أمر يتعذّر المقام على الإحاطة به في هذا الموقف الذي سنقصر النقاش فيه على المجال السياسي في الوثيقة، وحسب. يلخّص رئيس المكتب السياسي للجماعة أسعد هرموش في حوار مع وكالة "الأناضول" مضمون التوجّه السياسي الجديد للجماعة التي ستحرص على العمل في ثلاث دوائر: الدائرة الأولى من حيث الأهمية والأولوية هي الدائرة الوطنية، أملاً في صوغ "عقد اجتماعي وطني" ينتج قانون انتخاب أكثر تمثيلاً لإرادة الشعب اللبناني مع تفعيل "اتفاق الطائف"، ورفض كل "حالات التطرّف والعنف والخروج المسلّح عن الدولة والنظام العام".
الثانية هي الدائرة القومية، يبرز فيها اهتمام الجماعة الإسلامية بعلاقة لبنان بمحيطه العربي، ورفض محاولات زعزعة أمن العالم العربي أو تغيير هويته الاجتماعية والثقافية والدينية. في حدود هذه الدائرة يأتي دعمها إقامة دولة فلسطينية مستقلة مع حق العودة للاجئين ضمن سقف المبادرة العربية للسلام التي أعلنتها جامعة الدول العربية من بيروت عام 2002. في حين تكرّس الدائرة الثالثة للاهتمام بـ "القضايا الإسلامية والعلاقة مع كل الأحرار والشرفاء في العالم".
"رؤية وطن" لا تختلف في جوهرها عن السياق العام للرؤى التي تدلف حديثاً إلى طرحها وتبنيها فروع الأخوان المسلمين في العالم. فالجماعة ليست بدعاً بين أخواتها، أو خارج الظاهرة المستجدّة بين الحركات الإسلامية في التأكيد على الخصوصية والاستقلالية التنظيمية عن "الجماعة الأم"، وإن كانت لا تنفي النّهل من معينها دوماً والافتخار بالوعاء الفكري لمؤسّسي جماعة الأخوان المسلمين باعتباره تجسيداً أميناً للتصوّر الإسلامي الشمولي في نظرته للدولة والإنسان والمجتمع. وهو تطوّر ما زالت غالبية النظم الحاكمة والأحزاب السياسية العلمانية تشكك في حقيقة طرحه وتراه تكتيكاً سياسياً مؤقتاً، وليس ثمرة مراجعات سياسية وفكرية معمّقة، بهدف التملّص من الحملات الضخمة ضدّ الحركات الإسلامية في العالم.
من خلال "رؤية وطن" يحاول الأمين العامّ عزام الأيوبي ضخّ دماء جديدة في جسد الجماعة الإسلامية. كما يحاول استيعاب شريحة الشباب من خلال إشراكهم في القرار السياسي، وتوسيع دائرة انخراطهم في الأقسام الدعوية والتربوية والتنظيمية والإدارية. الأمر الذي من شأنه أن يحدّ من الصراع الداخلي، ويخلق لحمة قوية بين أقطاب الجماعة، ويخفّف من حجم التسرّب التنظيمي. وقد يساعد في إعادة توسّعها أفقياً بشكل طفيف بعد أن انكمش حضورها حتى في معاقلها التاريخية. في المجمل، يُحسب للجماعة الإسلامية أنها من أكثر فروع الأخوان المسلمين سلمية عبر تاريخها، ولم يُحسب عليها أن تورّطت في صراع مذهبي أو ديني أو عسكري مسلّح خلال الحرب الأهلية اللبنانية.
وقد تمتّعت الجماعة بنضج سياسي مرن عند المحطات المفصلية في الانقسامات السياسية الداخلية، ولم تتنكّر للدولة الوطنية، وكانت سبّاقة من بين الإسلاميين وداخل الشارع السنّي في البحث عن دولة المواطنة. ولم يمنعها انخراطها في العمل المقاوم ضدّ الاحتلال الإسرائيلي للبنان خلال الثمانينات، ولا دعمها المُطلق لمقاومة الاحتلال في فلسطين وأفغانستان والعراق وبلاد إسلامية شتى من احتقار مفهوم "المواطنة" الذي تطوّر لديها تماشياً مع خبرتها في الحياة السياسية اللبنانية. ولم تأخذها نشوة الانتفاضات العربية والثورات المسلّحة ضدّ النُظم القائمة بتبني أطروحات التطرّف والعنف أو تصدير المقاتلين إلى بلدان الأزمات والصراعات المفتوحة.
ما يُحسب للجماعة من أمور تُحمد عليها، لا تخفي حجم الإخفاقات والمشاكل التي وقعت فيها أو التحديات التي تنتظرها راهناً. فإظهار قدرتها على الحشد، كان استعراضاً مكشوفاً يهدف لتقديم نفسها جماعة عريقة ممتدّة شعبياً، وذات حضور اجتماعي وسياسي عريق يحميها من الهضم أو الابتلاع او التوظيف لصالح أحد من الأقطاب السياسية التي تتشارك الكعكة الداخلية، وذلك قبيل الانتخابات القادمة وفي وقت لم يسنّ قانون انتخاب جديد. أما رسالتها الخارجية فتمثّلت في إظهار "اللبننة " هويةً، و"لبنان أولاً" شعاراً، أملاً في النأي بنفسها عن المضايقات والحصار والعزل الذي تتعرّض له جماعة الأخوان المسلمين في العالم العربي اليوم. وقد تقلّص طموح الجماعة الإسلامية في السنوات الأخيرة من مشروع حزبي راغب بعبور الطوائف والمذاهب إلى جماعة دينية حريصة على حماية هوية ومكتسبات الطائفة السنّية سياسياً في الدولة والمجتمع. وعلى الرغم من مقاومتها لأية تبعية سياسية أو إلحاقية بأي مشروع يناقض توجّهاتها ومبادئها الفكرية والسياسية إلا أنها تجد نفسها مضطرة للخضوع لقواعد اللعبة التي تسنّها الأقطاب السياسية أو تفرضها التحالفات المتبدّلة إذا ما أرادت أن تضمن لنفسها حصة سياسية.
ثم إن تقلّص الدعم المالي الخارجي للجماعة منذ عقدين تقريباً، وضعف مردود مؤسساتها الاقتصادية في تغطية حاجياتها التنظيمية، والمضايقات التي يتعرّض لها الإسلام السياسي، واستمالة الخطاب المتشدّد والمتطرّف للشبّان الجُدد، والظروف التي تمرّ بها الحال اللبنانية تجاوباً مع اضطراب سياسي معرقل لنمو الأحزاب عموماً، ومحاولة قوى سياسية سنّية مصادرة التنوّع السياسي في المجال العام السنّي هي عوامل موضوعية تعاكس طموح الجماعة في مشروعها الحزبي. وما تطرحه الجماعة على الصعيد الفكري أمر لا يعتبر شيئاً يعتدّ به المواطن اللبناني اليوم الذي تجاوز الأطروحات الأيديولوجية للأحزاب على اختلاف مرجعياتها. ولم يعد يفرّق بين جماعة وأخرى او حزب وآخر بقدر ما يستميل قلبه وعقله الجهة القادرة على حمايته أو مدّه بالنفوذ السياسي أو توفير فرصة عمل له أو لأحد من عائلته.
ولا أظن أنه في ظلّ الحملات السياسية والإعلامية المنظّمة ضدّ الحركات الإسلامية، ولبنان من ضمن هذا المحيط المتأثر بهذا التوجّه، ستقدر الجماعة الإسلامية أن تحقّق خرقاً حقيقياً في الشارع السنّي على صعيد الاستقطاب والتأطير، فضلاً عن كونها غير قادرة على تقديم أطروحات سياسية تتجاوز المسلّمات الفكرية الثابتة عند كل جماعات الإسلام السياسي المتمثّلة في الموثوقية المطلقة والشمولية الكاملة. وهو أمر إن فعلته سيفقدها هويّتها المرجعية، وإن تغاضت عنه فإنها ستخسر المرونة السياسية المطلوبة لمواكبة المتغيّرات الاجتماعية لا سيما عند جيل الشباب اليوم.