التحرير الذي انتظره جدي!

لو أننا في أي وطن آخر، في أي مكان غير العالم العربي، لو أننا في فرنسا مثلاً لكان هذا اليوم، تماماً كيوم النصر هناك، بل هو لنا أعظم وأكرم. لكن التحرير بقي عيداً لكل من شعر في ذلك اليوم العظيم من العام 2000 بقشعريرة في بدنه، حتى ولو كان راقداً في قبره بسلام.

في 25 أيار تحرر جدي، بقي قبره على تخوم القرية لكن روحه عادت إلى حديقته الصغيرة
كل نظرة إلى أرضنا المحررة نصر متجدد، كل نسمة هواء نستنشقها من دون محتل، كل زيارة، كل وليمة غداء، كل حمل، كل ولادة، كل أغنية وقصيدة، كلُ كلٍ، وكلُ جزءٍ؛ هكذا هو الأمر بالنسبة لرجل عاش الإحتلال طفلاً وشاباً، وكان يسترق النظر يوماً إلى قريته من بعيد. يومها كنت أقف عند شاطئ مدينتي صور لأنظر إلى قريتي الناقورة، بضعة كيلومترات فقط كانت تفصلنا، دهر من المساحات في الواقع، سراب بعيد، صورة معلّقة بين الجبل والبحر لا حياة فيها، هكذا كانت قريتي بالنسبة لي. لم يكن يبث فيها الحياة سوى وجه جدي، أبي علي، القادم إليها بعد النكبة من فلسطين.

كان الاحتلال نكبة جدي المتجددة، لاحقه في لبنان عثمانياً، مضى وأمه إلى فلسطين بعدما ابتلع السفر برلك مصير والده الذي بقي حتى وفاته مفقود الأثر.

وفي فلسطين جاءه البريطانيون وفي إثرهم جاءته إسرائيل، قاوم الأول مع الذين ثاروا في 1936، فسجن وعاد ليخرج ويقاتل لاحقاً لتبقى فلسطين مع الذين قرروا المواجهة. يروي رحمه الله كيف طُلب إليهم أن يخلوا الطريق للجيوش التي ستأتي وتقاتل، يروي عن الأمل وعن أكبر النكبات، هكذا تجرّع العرب علقم انتظار القرار، هكذا تماماً كما جرى مع جدي ومع آلاف ممن تلقوا أولى دروس الهزيمة على يد أجداد من يتحكمون برقابنا اليوم.

مضى بأولاده وزوجته قاطعاً الجبل من البصة في قضاء عكا إلى الناقورة في لبنان. أراد أن يكون قريباً ليعود لحظة الفرج، لكن الفرج كان بعيداً، وبدل أن يعود إلى فلسطين باغتته إسرائيل بعد سنوات من الناقورة إبتداء وصولاً إلى بيروت عام 1982.

جدي رجل يتنفس الأمل، من كلماته الشهيرة أنه سيصنع لأولاده يوماً سيارة إطاراتها من الصبر، كان صبوراً إلى درجة أنه لم ييأس رغم كل السنين التي مرت على فقدان والده، من عودته كيفما اتفق، ميتاً، حياً، خبراً، المهم أنه لم ييأس، وكذا هو لم ييأس يوماً من عودته إلى فلسطين ولاحقاً من اندحار إسرائيل عن لبنان.

توفي جدي قبل ثلاث سنوات من التحرير، لم يدفن في الناقورة نظراً لتعقيدات نقل الجثمان إلى هناك بسبب الاحتلال الإسرائيلي، دفن قريباً جداً من حدودها. حتى في الموت فرض الاحتلال نفسه على قبر جدي، هجّره حياً وميتاً، ما أصعب الحياة تحت الاحتلال.

في 25 أيار/ مايو 2000، تحرر جدي، بقي قبره حيث هو، هناك على تخوم القرية، لكن روحه عادت إلى حديقته الصغيرة، إلى أرضه وبيته، خرجت إسرائيل بنضال أبناء القرى، بهمة شباب رفضوا الانتظار، وأبوا أن تدفن يوماً جثامينهم خارج قراهم بسبب الاحتلال.

لو أننا في أي وطن آخر، في أي مكان غير العالم العربي، لو أننا في فرنسا مثلاً لكان هذا اليوم، تماماً كيوم النصر هناك، بل هو لنا أعظم وأكرم. نحن أمة لم تعرف النصر منذ دهور، نحن أمة احترفت الهزيمة لقرون، نحن أمة اعتادت ألا يكون لقتلاها بواك، لذلك سعى من سعى لوأد التحرير جنيناً، لتحويله إلى عبء يجب التخفف منه، إلى مناسبة تعني طرفاً دون آخر ليسهل القول إنه ليس بعيد جامع، لكن التحرير بقي عيداً لكل من شعر في ذلك اليوم العظيم من العام 2000 بقشعريرة في بدنه، حتى ولو كان راقداً في قبره بسلام.

فكل عيد مقاومة وتحرير وجميعنا بخير وذاكرتنا بخير وأيامنا الجميلة الماضية باقية في وجداننا بخير.