الفوضى الخلاّقة جدّاً

سبق أن عاهدت نفسي عدم الخوض في أمورنا السياسية، فأنا أعي تماماً تركيبتنا الطائفية واللعب على إذكائها من الداخل والخارج، سوى إن تفصيلاً فيها يُحيّرني. يستوقفني. تفصيل لا هو بالبسيط ولا بالعميق، ولعلّه سخيف ليس إلأ . الكل هنا يطنب في إبداء رغبته باستيلاد قانون انتخاب جديد وفي أسرع وقت. هؤلاء وأولئك، ساسة من الأطراف كافة، وجماهير بكل توهّجها الطائفي .

اللحظة اللبنانية لم تكن يوماً سهلة، ولن تكون بسيطة بل كارثية تحت هراء انتظار مواعيد دستورية رجراجة
يروقني استهلال زاويتي هذه بالتأكيد على عجائبيّة هذا البلد. سوى أن لبنان في الحقيقة ليس عجيباً ولا غريباً، إنه فحسب بلد فاسد من رأسه حتى أخمص قدميه، وشُبهة العجب فيه، متأتيّة من كونه مازال مستمراً وإن على قدمين مقطّعتين .

 

كلما سألنا في أمر قذفوا بالجواب إلى ما بعد إقرار قانون الإنتخاب الجديد: هل اشتريت البيت ، حلمك الذي حدّثتني بشأنه ؟ كلا، أنتظر لما بعد الاستحقاق الإنتخابي !! هل تمّت خطبتك على فلانة؟ لا والله، ناطرين لنشوف شو راح يصير هاليومين !! هل أجريت عملية المرارة وقد تفاقم ألمك ؟ هلّق مش وقت عمليات، بخاف فوت عالمستشفى ويولع البلد، وبصراحة تعوّدت عا مرارتي بتضّل أهون من المرارة الموعودين فيها .

وحده سؤال السفر، يلقى إجابة فورية، خصوصاً من الفئة العمرية للشباب، ذكوراً وإناثاً و... لوين انشالله ؟ عالخليج طبعاً، أو عند عمّي بالبرازيل، أو خالتي بالغابون، أو عمّتي بديترويت، أو زوج أختي بفرنسا، أو عند القرود والعفاريت ، بيضّل أحسن من هالبلد من هلّق تا تكون صفيت النوايا وبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود !!

لا تُبرّر هذه الأسئلة والأجوبة، تقاليد لبنانية عريقة في الحذر والحيطة فحسب ، بل ذعراً مُستجداً من استحقاق انتخابي استفزازي للبعض ، وخطير للبعض الآخر، ويبدو مع هلع اللبنانيين عامة، متحفياً في عراقته ، واحترامه الكاريكاتيري للدستور والقوانين ، في ما في الحقيقة ما من قانون يحكم البلد ، ثم ما من بلد أصلاً، حيث تدور حياة وحشية في ظلّ طائفية مُتفاقمة ، وتعسّف شعوري ، وشراسة على مستوى الهرم والقاعدة، تقهر الأفئدة الضعيفة والقوية  على السواء ، ولا يلوح أنها تتوسّل استعجالاً من أيّ نوع يوقف عجلة المقتلة اليومية للبنانيين المسالمين، استعجالاً يُضيّق المسافة بين اللبنانيين أبناء البلد الواحد، وبين نجاتهم من المذبحة .

 سبق أن عاهدت نفسي عدم الخوض في أمورنا السياسية، فأنا أعي تماماً تركيبتنا الطائفية واللعب على إذكائها من الداخل والخارج، سوى إن تفصيلاً فيها يُحيّرني . يستوقفني . تفصيل لا هو بالبسيط ولا بالعميق، ولعلّه سخيف ليس إلأ . الكل هنا يطنب في إبداء رغبته باستيلاد قانون انتخاب جديد وفي أسرع وقت . هؤلاء وأولئك،  ساسة من الأطراف كافة ، وجماهير بكل توهّجها الطائفي . وبسبب من تأكيدهم الدائم على هذا الأمر واختراع مُسمّيات له، مُضحكة وكيدية، يُخيّل لي أحياناً، إنني الوحيدة في الجمهورية اللبنانية غير راغبة بإجراء أيّ تعديل جدّي على أوضاعنا لعلمي بأن الأمور لا تدور عندنا في الداخل، بل هي شئنا أم أبينا مجموعة إملاءات معروفة مصادرها وغاياتها، إقليمياً ودولياً، وأفكرّ للمرة الأولى في حياتي بالظهور على شاشات التلفزة كما الخبراء السياسيين وسواهم، وقول كلمة واحدة تُنعش فؤادي: على مين عم تضحكوا ؟

أفكّر أيضاً أن الخراب عميم، عيشاً وأمناً ما دام الناس يُقتلون في طريقهم إلى أعمالهم وفي أماكن سهرهم وعلى سطوح بيوتهم وفي غرف نومهم .خراب لن يوقفه أي قانون انتخاب لا ستين ولا تسعين ولا أرثوذكسي ولا بروتستانتي ما لم نعي البُعد الدولي والأقليمي من حولنا، ونتبصّر في معنى وطن للجميع . 

فساد في السياسة حلّ ثقيلاً على أمزجة اللبنانيين ومهّد للجريمة السهلة من دون عقاب ولا من يحزنون .

ما نفع المواعيد إذن إن لم تشكّل خلاصاً ورأفة أخيرة بحق هذا البلد. ليكن قانوناً جديداً يرى في إنسانية ضرورية لرفع الحيف عن الموجوعين والجائعين والمُستلبين والمُغرّر بهم والجاهلين. ليكن ال " قانون " غداً صباحاً أو بعد غد مساء أو في هذه اللحظة تحديداً وفوراً لكن خال من " البلف " لئلا يفاقم الإنتظار، خراباً لا رجعة عنه .

عشنا دوماً في خوف التحوّلات، لنحاول لمرة أخيرة في زحزحة موعد ما، موعد ليس إلإ، وليكن قانوناً انتخابياً مُنقذاً بدل العيش في ربقة الأرقام وفي رعب تكرارها .

يولد القرار بالحسم، حسم الإنتظار، حين لاتبقى هناك أمكنة للصلاة، أمكنة سرّية للرجاء، وحين يصبح البلد أعمى في معرفته بحاضره وغده . إذا كانت المواعيد الدستورية حلاً على ما يؤكّد البعض، فلنسرع بها، نسرع بكل شيء، نسرع بمن بقي منّا، نتجاوز المواعيد والدساتير والأنظمة، ونتصرّف بطريقة تُعجّل بخلاص ما .

هذا الإنتظار هو الأثقل والأبطأ، ولأنه الثقل يلوح أكثر بطئاً . البطء يولّد الرعب، يضاعفه، حتى والبلد يعّج بالإملاءات الأميركية والغربية والعربية عموماً، ناهيك عن الأطياف الثقيلة لبلدان تبدو في غيابها، أكثر من الحاضرين أنفسهم .

البلد كله غدا عرقاً نابضاُ يتعجّل إما انفجاره، وإما إبلاله من ورم مديد .

اللحظة اللبنانية لم تكن يوماً سهلة، ولن تكون بسيطة بل كارثية تحت هراء انتظار مواعيد دستورية رجراجة، وتحت التجزئة الطائفية المُتفاقمة وفي خناق الوصايات والفوضى الخلاّقة، أو القبضة المُحكمة الأخيرة وسبقت ملامستنا لتفاصيله كافة .

إنتظار ماذا في ظلّ البطالة والجوع والجريمة، وفي ربقة الإنحلال الإجتماعي والسلطة الصوَرية ؟ إنتظار ماذا؟ فيما التدهور الأخلاقي يشتبك مع فكرة الإنتظار تلك، يعيقها ويحوّلها إلى مسخرة، إلى جلجلة ورثاء لبناني طويل للذات وللمستقبل .

كل دقيقة إنتظار إهانة إضافية مُلعلعة لهذا البلد المغوي .. والصابر .

لأمر ما أحدسهُ عميقاً، يؤكّد ظنّي أن الأيام المنذورة لمجيء غودو، يُدّبر فيها أمر بالغ الأذى، لغودو ... ولمنتظريه .