تفكيك سردية العنف الدينيّ في مصر

إن الإصلاح المنشود يبدأ بتفكيك "السرديات" التي تمنح أصحابها المشروعية المطلقة في هدر حقوق الفرد والمجتمع التي كفلتها الأديان السماوية والقوانين الوضعية، ولا عبرة في حجّة كائن من كان إذا كان الإفساد طريقه للوصول إلى الإصلاح.

أخذت عمليات العنف واستهداف مؤسسات الدولة زخماً بعد إقصاء الرئيس محمد مرسي عام 2013
منذ عدة سنوات، وعملية التخريب وضرب الاستقرار واستهداف مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية في تصاعد مستمر في مصر. وقد أخذت زخماً بعد إقصاء الرئيس محمد مرسي عن الحكم عام 2013. وتطور استهدافها بشكل نوعي ليطال الأقباط في أكثر من حادثه. كان آخرها المجزرة التي وقعت يوم الجمعة في صعيد مصر، وأودت بحياة ما يقرب من 26 مصري قبطي.
لا شك أن أغلب هذه العمليات إن لم تكن جميعها هي من صنع جماعات وخلايا تتخذ من الإسلام أيديولوجية لتبرير أفعالها ومنحها المشروعية والزخم اللازمين. ولا تتم "الأدلجة" دون نسق أو منظومة تفكيرية مؤطرة ومتماسكة داخلياً، وهو ما يعرف بالسرديات الكبرى في الحياة. في حالة مصر، كما هو الوضع في عدة دول تتعرض للعنف الديني، نجد أن "سردية" بدأت تتشكل في وعي "الجماعات المتطرفة" التي برزت إلى السطح بعد ثورة 25 يناير2011. من أمثال تلك التي تنشط في شبه جزيرة سيناء، في مقدمها تنظيم "ولاية سيناء" الموالي لتنظيم داعش. وهذه جماعات "الناطقون بلسان السماء" تخرج بشكل تدريجي، وتنسحب من المجتمع، وتنسلخ من تاريخه وثقافته، وتتنكر لكل ما يخالف سرديتها، فما هي هذه السردية وكيف تشكلت وكيف يمكن تفكيكها؟ تقول "السردية": إنّ ثورة إسلامية في مصر قامت ضد الفرعون (الرئيس حسني مبارك)، وقد توّجت بالنجاح بإسقاط مبارك، إلا أن الغرب (كلّ ما هو غير مسلم) تآمر على الثورة، خوفاً من عودة الإسلام إلى الحياة، وتعاون مع أدواته وعملائه في مصر (الأجهزة الأمنية والعسكرية، القضاء، الإعلام، الأحزاب العلمانية، المؤسسات الدينية الرسمية، الأقباط، المتصوفة، سلفية ولي الأمر..) لضرب الثورة. ولما جاء محمد مرسي، ورغم أنه يحمل "فكر الإخوان الضال والمنحرف" إلاّ أن الغرب لم يقبله، وتمّ الانقلاب عليه لمنع عودة "الخلافة الإسلامية"، ومنع استقلال مصر واستقرارها وإبقائها خادمة وفية، وحارسة ساهرة على أمن إسرائيل ومشروعها الصهيوني-الصليبي في المنطقة، إلا أن الله قيّد لهذه الأمة من يحمل راية الجهاد، ويزود عنها بالنّفس والمال، من أولئك الذين ينفرون خفافاً وثقالاً ويجاهدون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، فهم الموقنون بنصر الله ووعده لعباده المؤمنين بالنصر والتمكين. هذه القلّة المؤمنة اختارها الله بعناية، وسيبتليها بشتى المحن ليصقل إيمانها ويصنع منها رجالاً يستحقون لقب "أولياء الله" على الأرض، فما عليهم إلا مواجهة "الطاغوت" الحاكم ومؤسساته وكل من يناصره في هذا المجتمع الجاهلي، وإذا كانت دولة الباطل ساعة، فإن دولة الحق تبقى إلى قيام الساعة. هم الطائفة المنصورة (وفقاً للسردية)، والمجتمع القائم إما كافر أو ضالّ لأن أفراده والوا المؤسسة الأمنية والعسكرية على حساب موالاته الإسلام. ومن يوالي الكافر على المسلم فهو كافر مثله، والجهاد في هذه الحالة واجب على كل مسلم لتغيير النظام السياسي القائم وإعادة الإسلام إلى الحكم. مع اكتمال هذه "السردية"، لم يعد أمام أتباعها وأنصارها سوى العمل على هدم "الطاغوت" بشتى الطرق وصرف الناس عنه بالتخويف والترويع والتفجير والتبشير وغير ذلك، حتى ينهك الباطل تماماً وينهار. لذا يتوجه جهد أفراد هذه الجماعات بعد اعتناق سرديتهم إلى طاقة جبارة لا تنضب، ولا تتعب، ولا تضجر من القتل والتخريب باسم المقدس. ونحاول في هذا المقال إبراز بعض المغالطات التي احتوتها هذه السردية انطلاقاً من أدبيات هذه الجماعات التي لا نتفق مع قواعدها في الأساس: - المغالطة الأولى: إذا أمعنا النظر في بنية هذه السردية نجد أن أحداث إقصاء محمد مرسي وفضّ اعتصام ميدان رابعة وزجّ الإسلاميين في السجون يحتل ركناً أساسياً في هرم السردية.  وسواء قلنا بأن ما حصل هو انقلاب عسكري دُبر بليل ونفذ على أكمل وجه أم قلنا إنها ثورة على حكم الرئيس مرسي ناصرها الجيش وانتصر لها، أو قلنا إنها كانت انتفاضة حقيقية على حكم الإخوان إلا أن الجيش خطف الانتفاضة واستولى عليها. أياً ما كان التحليل الذي نتفق أو نختلف بشأنه فهو لا علاقة له بالإسلام كدين يسري في عروق المجتمع المسلم ووجدانه ويستولي على عقله الجمعي. فالإسلام دين وليس أيديولوجيا تختزل في رجل أو نظام حكم. ولا يتحقق أمره لوجود إسلاميّ في سدة الحكم. ولا يعني بحال من الأحوال أن الإسلام هو من كان يحكم خلال عهد الرئيس مرسي. فلم يكن محمد مرسي خليفة، ولم يدّع ذلك، ولم يكن حكمه إسلامياً بشهادة الإسلاميين أنفسهم. وهذا لا يطعن في شخصه وعهده بل هو توصيف لحال وقع، ولظرف مضى. فالرجل أتى بطريقة ديمقراطية وأعدّ دستوراً، وأراد الحكم بموجبه. ورغم قناعتنا التامة أنّ اسقاطه أضرّ بالعملية الديموقراطية وبالتحول السياسي في مصر، إلا أن دعوات عزله والخروج ضده في الشوارع والساحات لم تكن حرباً على الإسلام أو خروجاً عنه، ولم نسمع عالماً يُعتدّ بعمله قد اعتبر ذلك ردّة وكفراً. - المغالطة الثانية في السردية: لو افترضنا أن الذين خرجوا على محمد مرسي قد خالفوا أمر الله بطاعة ولي الأمر، فهل هم خرجوا عليه رفضاً لدينه أم لتأويل بدا لهم؟ إن مجرد احتمالية السؤال نفسه هو كافٍ لمنع إطلاق الكفر على الآخرين لوجود شبهة مانعة من الحكم إذ أن الكفر لا يطلق على فرد أو جماعة دون بينة شديدة الوضوح ولا دفع لها. وهو أمر منوط بالقاضي العدل، وليس بعالم دين مهما بلغ علمه، فمن وظيفة الأول إبداء الحكم للإنفاذ، ومن وظيفة الثاني إبداء الفتوى دون حمل الناس على وجوب العمل بمقتضاها. - المغالطة الثالثة في السردية: كل من خرج على محمد مرسي وناصر السيسي هدف لمحاربة الإسلام وفصله عن الحياة. والسؤال: هل الذين فعلوا ذلك فعلوه بتأويل منهم أم أنهم خرجوا عليه لأنهم يرفضون الحكم بالإسلام الذي يحكم به الرئيس مرسي؟ لم نسمع أحداً قال إنه خرج على محمد مرسي لأنه حكم بالإسلام بل كان الثائرون عليه يؤكدون حراكهم بأسباب سياسية بحتة. فبأي حجة تثبّت لدينا أنّ نية هؤلاء كانت تستهدف الإسلام نفسه وتعاديه، وبالتالي أخذوا حكم من كفر به؟ - المغالطة الرابعة في هذه السردية القول: إن كلّ من شارك ولو بالكلمة أو سكت على ما قامت به المؤسسة العسكرية يلحق حكمه بحكم المؤسسة العسكرية التي كفرت بإنقلابها على الإمام وعادت الإسلام. السؤال المطروح هل الحكم على المؤسسة هو عين الحكم على كل فرد فيها؟ بمعنى آخر، هل يأخذ كل فرد في المؤسسة العسكرية والشرطية حكم المؤسسة أو قياداتها الكبار مهما تواضع دوره؟ أليس في ذلك مخالفة صريحة لنص قرآني" ولا تزر وازرة وزر أخرى". - المغالطة الخامسة في هذه السردية: مشروعية الخروج المسلح على النظام الجديد الذي استقر له الأمر. بأي حقّ يتم هذا الخروج؟ فمن نصّب هؤلاء قضاة وأمناء على تأويل الإسلام وأوصياء على حقوق المسلمين؟ هذا الخروج، وإن كان له شبهة شرعية في أدبياتهم، فهل يفضي بالضرورة إلى مواجهة النظام بالعمل المسلح؟ ألم تثبت التجارب التاريخية في العالم العربي أن الخروج المسلح وترك الكفاح المدنيّ يمنح مشروعية لسردية أخرى مضادة تخلقها وتروّج لها السلطة السياسية التي مفادها أن الاستبداد والحكم بقوانين الطوارئ والتضييق على الحريات العامة والخاصة أمر تفرضه الضرورة لحماية المجتمع ممن يريدون إلحاق الأذى به وبالدولة؟ حاولنا توضيح بعض المغالطات، أملاً في تفكيك هذه السردية التي تحوي مغالطات أخرى لم نأت على ذكرها. وهذا التفكيك أمر ضروري للحيلولة دون تعزيز السردية بنيتها الداخلية. وهذا التفكيك لا يصحّ أن يرجى فقط من المؤسسة الدينية في مصر أو مؤسسات المجتمع المدني بل إن السلطة السياسية في مصر تحتاج الإسراع في الاصلاح السياسي الذي يساعد على تفكيك هذه السرديات بدل أن تنهج سلوكاً في سبيل حمايتها للأمن والاستقرار قد يأت بنتائج عكسية تماماً. إن الإصلاح المنشود يبدأ بتفكيك "السرديات" التي تمنح أصحابها المشروعية المطلقة في هدر حقوق الفرد والمجتمع التي كفلتها الأديان السماوية والقوانين الوضعية، ولا عبرة في حجّة كائن من كان إذا كان الإفساد طريقه للوصول إلى الإصلاح.