الأقباط ..بهم تُعاقَب مصر

الإسهاب في الكلام عن مخطط تهجير مسيحيّي العالم العربي، لا يبدو ضرورياً إلا من باب التذكير. وللتذكير أيضاً إنه مخطط بدأ منذ بدايات القرن الماضي واتّخذ في كل مرحلة حلّة جديدة وإخراجاً جديداً. لكن الأمر يتعدّى اليوم مقولة إن تهجير المسيحيين يجعل من تركيبة العالم العربي مبرّراً ليهودية الدولة العبرية على أرض فلسطين المحتلة.

مسؤول إخواني هارب من مصر يقول إن دماء الأقباط ستجري كالأنهار بعد حادث المنيا
على الموقع الالكتروني لليوم السابع ليوم الجمعة 16 أيار الجاري نجد العنوان الرئيسي (المانشيت) : "أحد العناصر الإخوانية يهدّد الأقباط بالقتل بعد حادث المنيا".وفي التفصيل تهديد فعلي من مسؤول إخواني هارب من مصر، يدعى أحمد المغير، بأن دماء الأقباط ستجري كالأنهار بعد حادث المنيا. وعلى يسار الصفحة العناوين الأخرى (كما معظم المواقع الالكترونية) عناوين  تضغط على كل منها فتجد تفاصيله السياسية. إلا أن عنواناً يتكرّر في أول القائمة وفي آخرها يقول: "الطريق إلى أميركا لم يعد صعباً ومعقداً بعد اليوم" وتفترض، انسجاماً مع البقية، بأن المقصود طريق السياسة المصرية إلى أميركا. تضغط عليه وتفاجأ في المرتين بأن المضمون دعاية للحصول على تأشيرة هجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية. في اليوم التالي تجد الإعلان بصيغة أخرى : "قدّم طلباً وافحص ما إذا كنت تستحق البطاقة الخضراء" . تتذكر تصريح ترامب : يجب التوقف عن قتل المسيحيين في المشرق. وتعود بك الذاكرة أكثر قليلاً إلى تصريح نيقولا ساركوزي، يوم كان رئيساً لفرنسا، بأنه مستعد لإرسال طائرات لشحن مسيحيي المشرق، هو نفسه الذي قال لبطريرك الموارنة خلال الزيارة الشهيرة بأنه مستعد لاستقبال مسيحيي لبنان.

الإسهاب في الكلام عن مخطط تهجير مسيحيّي العالم العربي، لا يبدو ضرورياً إلا من باب التذكير. وللتذكير أيضاً إنه مخطط بدأ منذ بدايات القرن الماضي واتّخذ في كل مرحلة حلّة جديدة وإخراجاً جديداً. لكن الأمر يتعدّى اليوم مقولة إن تهجير المسيحيين يجعل من تركيبة العالم العربي مبرّراً ليهودية الدولة العبرية على أرض فلسطين المحتلة. إنه، بالنسبة لمصر، مسألة أكبر من ذلك. مسألة لا تشبه تهجير مسيحيي العراق وسوريا على يد داعش وأخواتها. بل إنها، وبحد ذاتها، وصفة خطيرة لحرب أهلية. تبدأ باستهداف الأقباط، وتنتقل بانتقال هؤلاء من مجرّد خراف مسلخ إلى بشر يدافعون عن أنفسهم. (بالأمس غرّد نجيب ساويروس قائلاً: لم يعد بإمكاني أن أدير الأيسر) وهذا طبيعي. غير إنها مرشحة لأن تنتقل أيضاً باتجاه خطير آخر وهو شعور الأقباط بأن الدولة مقصّرة في حمايتهم. ولن ينفع مع هذا الإحساس المنطق الواقعي بأنه ليس بإمكان أي دولة أن تحمي كلياً من الإرهاب. فرنسا وبريطانيا لم تستطيعا. فالناس إزاء ردة الفعل لا تصغي كثيراً وطويلاً إلى المنطق.

إذن، هؤلاء 15 بالمئة من مصر، بحسب إحصائيات الكنيسة المرقصية، وهم المصريون الأصليون، متمسّكون بمصريّتهم وبأرضهم، ولكنهم يشحنون ظلماً وغبناً بغاية دفعهم إلى الانفجار: بوجه الإرهابيين أولاً، ولكن ربما في وجه الدولة ولو بتداع لا يقصده منفذه، بل يقصده ويخطط له من له فيه مصلحة.

باحث فرنسي لخّص المسألة، في صحيفة لو فيغارو، بقوله غير البريء: "أما الحقيبة وإما الحرب الأهلية التي ستدمّر مصر" 

وآخر قال: "إن الإرهاب يضرب عصفورين بحجر: إضعاف حكومة السيسي وإرهاب المسيحيين ودفعهم إلى التمرّد على الحكومة".

 هذا الكاتب هو حفيد بونابارت، وهذه هي أمنيات الغرب التي لم تقف يوماً عند حد التمنّي، بل تعرف دائماً كيف تتجسّد في خطط، تحملها الأجهزة إلى التنفيذ. وهي أمنيات إسرائيل التي خرجت إحدى أهم صحفها غداة احتلال العراق عام 2003،  بمانشيت : "أما مصر فهديتنا الكبرى!!" والتي خرجت قناتها التلفزيونية الثانية، قبل أيام، بتقرير يقول إن المصريين سيتحوّلون إلى لاجئين، كما السوريين خلال السنوات القريبة. وإذا كان هذا التقرير الإسرائيلي قد ربط توقّعه بتطوّرات سد النهضة وتأثيره على البيئة، وبالتالي على الاقتصاد والناس،  فإن الفلاحين هم أكثر من يخضع لهذا التأثير، والأقباط فلاحون بمعظمهم. وبذا يجتمع العامل الديني مع الاقتصادي المعيشي.

تهديدات خطيرة ومصيرية ترى إلى مصر بوصفها الدولة العربية الكبرى – مهما ادّعى الآخرون الكبر وغطّوه بالمليارات والذهب – وترى إلى مصر بوصفها المفصل بين إفريقيا وآسيا، مفصل بدأ تدميره من ليبيا، لكن اجتياحه لا يستكمل إلا بمصر. ومن هنا يتّضح الربط بين عملية المنيا، وعملية مانشيستر التي تمت على يد ليبي. وارتفاع الصياح في أوروبا بأن ليبيا تشكّل تهديداً، ورد الجيش المصري في درنة الليبية.

فأما أن يكسر الإرهاب المفصل ويتصل امتداده من آسيا إلى إفريقيا، ويأتي المتحضّرون لمكافحة الإرهاب فيسيطرون على القارتين، وإما أن تشتعل الحروب الأهلية أكثر، فيجد كل طامع موطئاً لقدمه فيها، وأما أن تنجح مصر بإنقاذ نفسها وإنقاذ العرب وإفريقيا، كما هو قدرها. ما يستدعي أن تكون الحكومة المصرية أكثر جرأة على جبهتين: أولاً، في إصلاحاتها الداخلية وإنصاف الأقباط تمثيلياً كمواطنين، بما يمتص غبنهم ونقمتهم، وهذا حقهم ، وثانياً، في مواجهتها وتحالفاتها  الخارجية ووضوح معسكرها.

هي أم الدنيا ، هذا حجم التحديات والمخاطر التي تواجهها وهذا ما يجب أن يكون عليه حجم قدرة حكومتها على الصمود واجتراح الحلول.