رمال متحركة!!!

لا يعلم المرء إن كان المشهد العربي اليوم، وخاصة في الخليج، مضحكاً أم مبكياً، ولكنه يعلم بالتأكيد أنه مشهدٌ مخجلٌ لكلّ من يصرّ على تصنيف نفسه بأنه عربي، ويؤكد حرصه على العروبة ومستقبل العرب. والمذهل في الأمر أن لا شيء جديداً إطلاقاً، حيث دأبت القوى المعادية على تفتيت العرب منذ خوضهم الحرب ضد السلطنة العثمانية ووقوعهم بعدها تحت سلطات الانتداب.

لقاء سوريا والعراق وفتح الحدود بينهما استوجبا عدواناً مباشراً من الولايات المتحدة على القوات السورية
من خلال مراجعة سريعة لهذا التاريخ، يلحظ المرء أن المعادلة بسيطة جداً، وهي أنه لا وجود مؤثرا للعرب إلا من خلال توحيد كلمتهم والتنسيق بين البلدان التي رُسمت على أسس تجعل من الصعوبة بمكان تحقيق مثل هذا التنسيق والتوحيد. ولعلّ من المناسب اليوم، ونحن في رحاب الذكرى السابعة عشرة لرحيل الرئيس حافظ الأسد، أن نشير إلى أنّ كل جهوده السياسية وعلى مدى ثلاثين عاماً كانت تحاول جمع كلمة العرب، إذ آمن إيماناً مطلقاً، ونتيجة تجاربه وتفاوضه مع الغرب، أن جلّ ما يخشاه أعداء هذه الأمة هو توحيد كلمتهم ورصّ صفوفهم.


 ومن الواضح اليوم، كما كان واضحاً على مدى التاريخ، أن لقاء سوريا والعراق وفتح الحدود بينهما استوجبا عدواناً مباشراً من الولايات المتحدة على القوات السورية كي لا يجري تحقيق هذا التواصل، الذي كان ممنوعاً  على البلدين على مدى نصف قرن ونيّف. ما من خطر في العالم على العرب يعادل خطر الفرقة بينهم واصطفافهم في مواقع مختلفة لأعذار وأسباب واهية، وعجزهم التاريخي عن أن يروا حقيقة بسيطة، أكد عليها حافظ الأسد مراراً وتكراراً، وهي أن كل ما يوحدنا هو صحيح و أنّ كل ما يفرقنا هو خطأ. في الوقت الذي جرى فيه استهداف سوريا وليبيا والعراق واليمن، أيقن بعض العرب أنهم في منأى من الاستهداف، بل ظنوا أنفسهم أنهم الاصدقاء الخلّص لمن يستهدف إخوانهم وأشقاءهم، وكرسوا أموالهم وقنواتهم الإعلامية لاستهداف الأخ والصديق. واليوم يعتقد من يقفون في صفّ الولايات المتحدة أنهم ناجون من الاستهداف مستقبلاً، وأن الدعم المقدّم إليهم لبث نار الفتنة والحقد وقتل الشعب اليمني  البريء سوف يستمر إلى ما بعد تحقيق الأهداف التي رسمها هؤلاء أصلاً.


إن الخطط الذي يضعها الآخرون مرحلية، وفي كلّ مرحلة سنشهد تطورات واستهدافات واصطفافات مختلفة، ولكن الهدف الوحيد والبعيد هو ضرب هؤلاء العرب بعضهم ببعض، واستنزاف مقدراتهم وطاقاتهم وتحويلهم إلى رعاع تسيطر عليه وتديره الإمبراطورية الاسرائيلية، التي تعدّ القضاء على العرب شرطاً أساسياً لهيمنتها على المنطقة واستغلال كل هذه الخيرات التي يهملها العرب أو يسيئون استخدامها. وفي هذا الموقف تكرار أكيد لموقف المستوطنين البيض، الذين رأوا أن الثروات الطبيعية للولايات المتحدة مهدورة في أيدي السكان الأصليين، فأبادوا السكان الأصليين وأسسوا امبراطوريتهم التي حكمت العالم. وأحد الأدلة الأكيدة على هذا المنحى من التفكير هو الحديث الذي جرى بين حافظ الاسد وهنري كيسنجر في المفاوضات المضنية للتوصل إلى فصل للقوات بين سوريا واسرائيل بعد حرب تشرين، إذ سأل الأسد كيسنجر في أيار/ مايو 1974 لماذ تريد غولدا مائير أن تنشر سبعة آلاف مراقب في منطقة لا تمتد إلّا كيلومتراً واحداً؟ فأجاب كيسنجر جواباً صادماً للأسد إذ قال: "إن الانسحاب منهج مؤلم لهم، والانتقال من السيطرة العسكرية إلى التفاهم أو التصالح السياسي سيكون مؤلماً. إن نظرتهم للعرب تشبه النظرة التي كانت لدى الأميركيين تجاه الهنود الحمر في أوائل عهد الاستيطان في أميركا. كانوا يرون أرضاً غير مستصلحة ومن الواجب عليهم استصلاحها، ويرون غابات عليهم استيطانها. يحمل الإسرائيليون هذا النوع من التفكير، ولديهم هذه العقلية، وإن اعتمادهم الكلي هو على القوة العسكرية كما كانت عند الأميركيين الأوائل".


لقد كان نفط الخليج ومال الخليج وبالاً على الأمة العربية للعقود الماضية لأنه استقطب بعض النخب من الدول العربية واستبدل قيم الإبداع والتميّز بقيم تجميع الثروة والمال، وضربَ إسفيناً في الأخلاق العربية، من خلال إعلام مشوّه يعتمد التقليد والتغريب، وإبراز الغرب كأنه الحلم الموعود، مع محاولة إجراء انفصام كامل بين الشباب العربي وآبائه وأجداده، وقيم المجتمعات العربية المتوارثة والأخلاقية.  اليوم بدأ تأثير مال الخليج يرتدّ على دول الخليج ذاتها بعدما استخدمت هذا المال لسفك دماء بريئة في العراق وليبيا وسوريا واليمن، إذ لم يعد ممكناً لهذه الدول أن تستمرّ إلا بعد أن تدفع كلّ ما لديها لمن يستهدفها في الصميم، برغم اعتقادها أن رقصة سيوف ومظاهر ترف مقرفة قد تغيّر من الموقف الأساسي لهؤلاء. لقد قال ترامب منذ ثلاثين عاماً لماذا يعيشون كالملوك بعائدات النفط هذه، ونحن محرومون منها.


أتت زيارة ترامب لتكون  تباشير ضمان صراع في الخليج يُنهي كل أطرافه المتصارعة، ويترك القواعد العسكرية والنفط والغاز لمن يخطط منذ عقود لاستخدامها لمصلحة إمبراطوريته التي يبنيها على حطام تخلّف المتصارعين، الذين يتحاربون على خطوط في الرمال في معارك سوف تنهيهم جميعاً وتحقق أحلام أعدائهم وأطماعهم في ثرواتهم.