تفكيك الجيوش إيذاناً بالفوضى وتفتيت الدول
الجيش في الحال العربية ليس مؤسّسة عسكرية أو وحدات مرابطة على الحدود، بل هو رافعة الدولة وصمّام أمنها وذلك في غياب الشرط التاريخي لقيام الدولة الحديثة والمجتمع المدني، بما هما مفردات قومية بالضرورة.
مذبحة المماليك نفّذها محمّد علي في وراح يؤسّس بدعم فرنسي لشكل شبه حديث من الجيوش
كانت الجيوش
موضوعاً لحقول وميادين عديدة، استراتيجية وفكرية وكذلك في حقل الآداب والفنون، فمن
(صن تزو وكلاوسفتز) إلى هيدغر ونيتشه، إلى الملاحم والأساطير الإغريقية وغيرها،
كما ارتبطت الجيوش بتطوير الفنون والعمارة والفولكلور ... إلخ
ومن أبرز
المساهمات العربية الإسلامية القديمة والحديثة حول الجيوش، "الأحكام
السلطانية" للماوردي، نظام الملك، وغيرهما.. وكذلك حسن حنفي والجابري في
مقارباتهما للعلاقة بين (الجيش وقريش) وهيكل وخاصة في كتابه (جيوش وعروش).
وفي كل المرات
التي انتقلت فيها الجيوش الكبرى من مرحلة إلى أخرى، كان (القطع) دموياً ولم يحدث
في سياق تحوّلات بطيئة.
في السابق وقبل
التحوّلات الرأسمالية ارتبط تحوّل الجيوش من صفاء (التحالف القبلي من أرومة وعصبية
قومية واحدة) إلى اختلاط واسع شكّلت (الجماعات المُسلّحة الوافدة) عنصره الرئيسي.
ولم تكن هذه
الجماعات على إيقاع واحد. فهي مزيج من عناصر مختلفة، عقائدية وسياسية ومرتزقة راحت
تندمج في الدولة المتحوّلة هي نفسها من (دولة قومية) إلى دولة امبراطورية مع اتّساع
نفوذها، فالتوسّع المذكور كان شرطاً إجبارياً من متطلّبات التحوّل الإمبراطوري.
ومن أشهر
الجماعات الوافدة المذكورة، الترك في الحال العربية، وقبائل القوط والهون
وغيرها في الحال الرومانية. وكانت توصف من قِبَل روما نفسها بالقبائل
البربرية قبل أن تستخدم روما هذا التوصيف ضد الشرق. في الحال العربية، ومع
اتّساع نفوذ الدولة العباسية وفقدانها (العصبية القومية)، وفي إطار الصراعات
الإقليمية آنذاك، استعان الخلفاء بالسلاجقة الأتراك ضدّ البويهيين، وسرعان ما صار
السلاجقة القوة الأساسية في جيش الدولة وأسهموا (بتخلّفهم) في انحطاطها وخروجها من
التاريخ ولا سيما مع عصر المتوكل فصاعداً..
ويلاحظ هنا مكر
الأيديولوجيا في هذه التداعيات. فمقابل النهوض عند المأمون ودور المُعتزلة
والترجمة في ذلك، فإن عصر الانحطاط الذي واكب المتوكل والسلاجقة استدعى
تأويلات رجعية لأفكار أحمد بن حنبل. أما في الحال الرومانية وتحوّلها
الإمبراطوري الذي استدعى القبائل البربرية الشمالية، فقد أخذت الأيديولوجيا
(منحى) آخر وكذلك الشكل الإقطاعي مقابل الركود الآسيوي التركي ..
لاحقاً وفي حقبة
أخرى، هي حقبة التحوّلات الرأسمالية كان إيقاع الجيوش الإمبراطورية بطيئاً فانتهى
بأشكال من القطع الدموي الرهيب، وذلك في سياق المتطلّبات الرأسمالية لدولة الثورة
الصناعية وأركانها القومية. ومنها الجيش وذلك سواء في المراكز الأوروبية نفسها أو
في مجالاتها الحيوية جنوباً، ومن مظاهر ذلك:
- مذبحة المماليك التي نفّذها محمّد علي في قلعة القاهرة
1811، وراح يؤسّس بدعم فرنسي لشكل شبه حديث من الجيوش.
- مذبحة الإنكشارية، التي نفّذها السلطان محمود الثاني في
ميدان الخيل في اسطنبول 1826، وراح يؤسّس لقوات جديدة بدعم بريطاني.
- مذبحة الساموراي، التي نفّذها إمبراطور اليابان 1876،
وراح يؤسّس لجيش حديث بدعم أميركي.
وقد كانت المذابح
المذكورة إيذانا بعصر رأسمالي جديد لم يخلُ من إرهاصات مُبكرة في الفنون والآداب،
كما في عمل سرفانتس (دون كيخوت) حول أفول الفرسان والفروسية القديمة، كما في مجمل
اختراعات دافنشي.
الجيوش والدولة العربية في الأزمنة الحديثة
إذا كانت الجيوش
في أوروبا والأمم التي أنجزت ثورتها القومية الديمقراطية جزءاً من الدولة القومية:
الحدود - الهوية – الجمارك – العملة والجيش. فهي في الغالبية الساحقة من البلدان
العربية غير ذلك تماماً ..
وبدلاً من أن
ترافق الثورة البرجوازية القومية، وتكون أحد مظاهرها، فقد سبقتها وصارت مكوّناً
أساسيا فيها، وارتبط مصير الدولة معها ارتباطاً وثيقاً. فكل ضعف وإنهاك أو تدمير
أو حل للجيش ينعكس فوراً على الدولة ضعفاً وإنهاكاً وتدميراً ..
وهو ما يُفسّر
أيضاً لماذا يقوم الغُزاة والمُستعمرون في كل مرة يعتدون على هذه الدولة أو تلك
بحل الجيوش فيها، كما حدث مع مصر بعد ثورة عرابي، ومع سوريا 1920 بعد الاحتلال
الفرنسي لها، ومع العراق بعد الغزو الأطلسي له، ومع سوريا بعد استهدافها في ما يُسمّى
الربيع العربي وكذلك مع أية دولة مُستهدفة مثل ليبيا ومصر وتونس والجزائر..
إن الجيش في
الحال العربية ليس مؤسّسة عسكرية أو وحدات مرابطة على الحدود، بل هو رافعة الدولة
وصمّام أمنها وذلك في غياب الشرط التاريخي لقيام الدولة الحديثة والمجتمع المدني،
بما هما مفردات قومية بالضرورة.
وليس بلا معنى أو
بفعل (المؤامرة في التاريخ) أن ترتبط النشاطات السياسية في الحال العربية المُبكرة
بالجيش والانقلابات العسكرية، بالنظر إلى الضعف في الروافع والتشكيلات
الاجتماعية الطبقية وغير الطبقية..
وليس بلا معنى أن
يترافق استهداف الدول وتفكيكها إلى كانتونات طائفية، باستهداف الجيوش
وتفكيكها وحشد طيف مُتعارض من القوى لهذه الغاية من الأصوليين والميليشيات
التكفيرية، إلى أوساط ليبرالية وبرتقالية. بل أن بعض هذه الأوساط كان يدرك تماماً
أن انهيارالدول والجيوش أيّاً كانت سماتها، شمولية وبيروقراطية أو محايدة،
لا يفضي إلى بدائل ديمقراطية بل يُفضي إلى حالات من التفسّخ والتحلّل
والفوضى..