الإسلام والمشاركة السياسية

يذهب قطاع من العلماء والفقهاء المسلمين إلى القول بإن الإسلام لم ينص على قيام نظام سياسي محدد ولم يحدد شكل الدولة المسلمة، وأن ما توارثه المسلمون عبر تاريخهم من نظم سياسية وأشكال في انتقال السلطة هي اجتهادات تاريخية أملتها الظروف التي أحاطت بتجربة المسلمين عبر تاريخهم ونتيجة احتكاكهم بمن حولهم من نظم امبراطورية مثل الإمبراطورتين الرومانية والفارسية.

أهمية المشاركة السياسية في كونها تمنح الناس الحرية والقدرة للتحكم بأمور حياتهم
يمكن تعريف المشاركة السياسية بأنها حجم مساهمة الفرد ومباشرته العمل السياسي العامّ بهدف التأثير على القرارات السياسية من خلال الإسهام في وضع الأهداف العامة للمجتمع، وتحديد الوسائل المناسبة لتحقيقها. ويعرفها كمال المنوفي في كتابه: "الثقافة ‏المتغيرة في القرية المصرية" بأنها حرص الفرد على أن يكون له دور إيجابي في الحياة السياسية من خلال المسؤولية الإدارية لحق التصويت، أو الترشيح للهيئات المنتخبة، أو مناقشة القضايا السياسية مع الآخرين، أو بالانضمام إلى المنظمات الوسيطة.

وتأتي أهمية المشاركة السياسية في كونها تمنح الناس الحرية والقدرة للتحكم بأمور حياتهم والمساهمة في توجيه حياة المجتمع بشكل عام. وهي ترتبط عند داود الباز في كتابه "حق المشاركة في الحياة السياسية" بالحرية الشخصية للمواطن، وسيادة قيم المساواة، وبإقرار الحاكمين بالحقوق الدستورية والقانونية للمحكومين التي تمنحهم حق المشاركة في اتخاذ القرار، وإتاحة الفرص أمامهم لممارسة هذا الحق دون ضغط أو إرهاب.

تمر المشاركة السياسية بدرجات أو مراحل مختلفة. فهي تبدأ بالاهتمام بالشأن العام أو السياسي ثم تتطور إلى الانخراط السياسي قبل أن تتحول إلى القيام بنشاط سياسي ومن ثم تنتهي بالوعي بضرورة تحمل المسؤوليات السياسية وتعاطي النشاطات السياسية وكل أشكال العمل والنضال السياسي.

‏أمّا المشاركة السياسية في ضوء التصور الإسلامي فهي عند سعيد إسماعيل علي في كتابه "الأصول السياسية للتربية" تتسع لكل ما من شأنه أن يساعد على تحقيق الأهداف العليا للإسلام حيث تشمل الالتزام بالقوانين والتعاون على تنفيذها والإسهام في الحفاظ على الأمن السياسي العام، والمشاركة في عمليات الإنتاج والحفاظ على المال ‏العام، وحماية التوازن المادي، ومحاربة الفقر والفساد والجريمة، وأداء الخدمة العسكرية، والمشاركة في الدعوة والاتصال، وغير ذلك مما تفتضيه مصلحة الدين والدنيا معاً.

وبناء عليه، فالسعي لتحقيق الأهداف العامة للدولة لا يكون فعالاً إلا من خلال مشاركة شعبية واجبة ومتأتية من منطق المسؤولية العامة للفرد. ‏لذا يتوجب على المسلم المشاركة في الشؤون العامة للمجتمع، والإسهام الفكري والعملي في كل ما هو متصل بالشأن العام للمجتمع في آفاقه المحلية أو الإنسانية العامة.

‏لم يختلف الفقهاء حول ضرورة قيام الدولة ووجودها وحمايتها في إدارة المجتمع المسلم إلا أن خلافاً واسعاً نتلمس عمقه بينهم حول مشروعية "المشاركة السياسية" للمسلم في الدولة الحديثة التي تنقسم بين أنظمة ملكية وأخرى جمهورية على تفاوت فيما بينها في استلهامها للتصور الإسلامي في الحكم.

يذهب قطاع من العلماء والفقهاء المسلمين إلى القول بإن الإسلام لم ينص على قيام نظام سياسي محدد ولم يحدد شكل الدولة المسلمة، وأن ما توارثه المسلمون عبر تاريخهم من نظم سياسية وأشكال في انتقال السلطة هي اجتهادات تاريخية أملتها الظروف التي أحاطت بتجربة المسلمين عبر تاريخهم ونتيجة احتكاكهم بمن حولهم من نظم امبراطورية مثل الإمبراطورتين الرومانية والفارسية. ولهذا فالمسلمون غير مُلزمين بنمط محدد في الحكم، وتبعاً لذلك فلا يجوز لنا أن نصف نظام سياسي قائم اليوم، بأنه نظام كفر أو نظام جاهلي أو نظام إسلامي أو نظام غير إسلامي، لأن الإسلام لم يطالب بنموذج محدد من الدولة، كما أن الدولة الحديثة ليست إلا شخصية اعتبارية، ولا يمكن وصفها بالإسلامية أو بالكفر فهي مجرد جهاز إداري أو مجموعة طرق ومناهج في إدارة المجتمع. والإدارة غير محرمة في ذاتها، وما قد يكون محرماً فيها هي بعض طرق إدارة المجتمع والدولة، إذا ما سعت في نشر الظلم، وهدفت لتقويض دعوة الإسلام أو حرضت على الكفر والفسوق والضلال والانحلال الخلقي.

وهناك فقهاء ومفكرون معاصرون أغلبهم ممن ينتمي للحركات الإسلامية على اختلاف أطروحاتها، يرون في الإسلام نظام سياسي واجتماعي واقتصادي. وأن قيام الدولة من صلب دعوة الإسلام. وقد هدف الإسلام منذ تمكّنه في المدينة المنورة من الشروع في قيام الدولة والسهر عليها. لذا سنّ الدستور، ووضع القوانين ونصّب القضاة، وعين امراء السرايا، وانتظم الجيش الذي مهمته الدفاع عن الدولة والتبشير بدعوتها خارج حدودها، وغير ذلك من مهمات الدولة المسلمة في العصر النبوي وعصر الراشدين.

وقد اختلف هؤلاء فيما بعد بين تيارين: تيار يرى أن الدولة الحديثة وإن كانت غير إسلامية إلا أنها ليست دولة كافرة ولا يجوز تكفيرها أو تكفير حكامها أو تكفير المجتمع الخاضع لها، وأن واجب المسلمين هو تصحيح ما فيها من انحراف ودعم ما فيها الخير لتحويلها إلى دولة إسلامية في نهاية المطاف. وعلى هذا أغلب حركات الإسلام السياسي.

وتيار آخر ينظر إلى الدولة الحديثة القائمة اليوم في المجتمعات المسلمة بأنها دولة جاهلية كافرة لا يجوز العيش فيها ولا تجوز المشاركة في أي نشاط سياسي فيها باعتبارها دولة غير مسلمة، وإن كان اغلب أهلها أو جميعهم من المسلمين. لذا خرج أتباع هذا التوجه من الدولة، وعاشوا العزلة بعيدة عنها، ودعوا إلى التمرد عليها ومواجهتها، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى تكفير الدولة والمجتمع معاً، في حين حصر آخرون حكمهم في دائرة التنظير، منتظرين قيام الدولة الإسلامية الموعودة، دون أن يسلكوا العنف المسلح طريقاً لتقويض الدولة القائمة وبناء الدولة الإسلامية.

ولهذا نجد أن مناط الخلاف في الحكم والتقدير والتصور بين الفقهاء حول شرعية المشاركة السياسية للمسلم من عدمها تدور بالأساس عند هؤلاء حول التصور العام عن شكل الدولة في الإسلام وعن حكمهم لطبيعة الدولة القائمة راهناً.

عموماً، نفهم مما سبق أن علماء المسلمين حينما يتحدثون عن التعددية السياسية وعن موقف الشرع من المشاركة السياسية فإنهم لا يقصدون بذلك موقف الإسلام من العمل السياسي على إطلاقه. إذ انهم متفقون جميعا على أن الإسلام يتضمن في صلب دعوته إصلاح المجتمع. وهذا واجب يشترك فيه الحاكم والمحكوم، نخبة الأمة وعوامها، وإن تفاوت فيه مستوى الوجوب أو نوعه. ويُدخل العلماء حقل العمل السياسي ضمن باب واسع من أبواب الفقه يعرف بالسياسة الشرعية وهو مصطلح في الفقه الإسلامي يرصد ويحدد وينظّم العلاقة بين الحاكم والمحكوم من ناحية وبين أفراد المجتمع فيما بينهم من ناحية أخرى.

وباستثناء قلة من الفقهاء من الذين يقولون بوجوب طاعة الحاكم طاعة مطلقة باعتباره ولي أمر، فلا يجوز الخروج عليه طالما أنه قد استتب له الأمر، ولا يجوز تشكيل أحزاب أو جمعيات سياسية، ولا يجوز منازعته الحكم أو انتقاده، فإن غالبية الفقهاء والمفكرين الإسلاميين هم مع وجوب العمل السياسي وإن اختلفوا في تطبيقاته.