وقائع داعشيّة

الأول إن هذا الانتصار العسكري ليس نهاية التنظيم كوجود إرهابي مُقاتل. الثاني إن هذه النهاية لم تأتِ إلا على أنقاض مدينة مُدمّرة بالكامل، عمرانياً وبشرياً واقتصادياً. الثالث إن داعش ليس التنظيم الإرهابي الوحيد الفاعِل على الأراضي السورية العراقية، وليس الآخرون بأقل خطر منه، خاصة جبهة النصرة. الرابع، وربما الأهم، إن التنظيم والإرهاب الأصولي كله، ليسا مجرّد فرقة عسكرية تحاول تنظيم التوحّش، بل هو توحّش فكري روحي مرتبط بالمقدّس يحفر عميقاً في كيان الآلاف من البشر ولا تؤدّي الهزيمة العسكرية إلا إلى المزيد من تجذّره وحقده.

انتصار الموصل ليس نهاية التنظيم كوجود إرهابي مُقاتل

من هنا، ربما يجد المرء نفسه، وللمرة الأولى مُتّفقاً مع التوصيف الأميركي الذي جاء على لسان الرئيس ووزير الخارجية، حيث وصفا الإنجاز بـ "خطوة" و "مؤشّر" . لكن لتبرز مباشرة جملة أسئلة: هل كان من الممكن أن نرى داعش في الموصل لولا الاحتلال الأميركي للعراق وحصاره لسنوات قبل ذلك؟ هل كان إنشاء داعش وتشكّلها بعيداً عن السجون الأميركية في العراق وعن دعم الذين يساندون مخطّطات كل مَن يقف وراء الاحتلال؟ لماذا تُركت الموصل لداعش، سُلّمت إليه عروساً عامرة، واليوم تُستعاد منه ركاماً بشرياً وعمرانياً من دون أن يُحاسَب مَن سلّمها؟ مَن الذي سيُعيد إعمار الموصل؟ أهي الشركات المُتعدّدة الجنسيات أم الدول المُندرِجة فيها، هؤلاء الذين يموّلون الدمار ليعودوا فيمّولوا إعادة الإعمار والمال يأتي من ثروات البلدان المعنية... ننهبكم لندمّركم وننهبكم لنبنيكم، والأخطر إننا نبني وفق رؤية جديدة تكرّس هيمنة أرباب السوق وتُكرّس ما يخدم هذه الهيمنة من كَسر الناس وتشظّيهم إلى هويات فرعية تُعمّق الأحقاد وتُباعدها، إن لم نقل العداء بينها، يخاف أحدها الآخر ويلجأ كل منها إلى حماية أجنبية مختلفة تقضي كلياً على مفهوم السيادة والمصلحة الوطنيتين، على مفهوم المواطن الذي يتحوّل إلى عامل مُستعبَد ومُستهلَك مُفرَغ.

كل ذلك يُعمّق القهر، يُعمّق الكبت، يُعمّق الجهل والتطرّف، يُعمّق الإرهاب كحال فكرية روحية نفسية. أما الدين فيكون الطريق الأفضل لتغذية كل ذلك، إذ يوظّف كوسيلة لتعطيل العقل وتبرير الإجرام وفرض الطاعة. وعندما يكون الإنسان يائساً من كل ما هو واقع وملموس، فإن لجوءه إلى الغيب والماوراء والمُطلَق يصبح المهرَب الوحيد لاكتساب مسرَب ما. لدى مَن يوظفّونه بوعي أو من يوظّفهم من دون وعي، على حد سواء.

من هنا لا بدّ من وعي حقيقة إن محاربة هذه الحال لا تكون الا بمضادّاتها. لا نقول بإلغاء الدين من وعي الناس، وهذا مستحيل، خاصة في منطقة تتميّز بإيمانها، ولم يكن الدين إلا ليُشكّل دائماً جزءاً أساسياً من تاريخها وثقافتها. بل بقراءة مُستنيرة إنسانية للدين، وبإرساء مفاهيم ثقافية اجتماعية تُعزّز هذا البُعد الإنساني.

لكن ما هو أعمق من هذا، هو الخروج من التعامي والنظر بواقعية  إلى الأسباب العميقة التي دفعت الناس نحو هذه الظلامية. بدءاً من شعورهم بالظلم المتعدّد الأوجه:

- غياب الدولة المدنية التي تساوي بين مواطنيها من دون تمييز بين عِرق ودين ومذهب.

- غياب الثقافة الوطنية التي تفهم السنّي أنه ليس الأحق بالسلطة لأنه احتكرها طوال 14 قرناً وتقول للشيعي إن خراب البلاد ليس فرصته لعلاج مظلوميّته التي حملها قروناً ولا يخلّصه منها إلا مفهوم المواطن، وتقول للمسيحي إنه إبن البلاد الأصلي من العراق إلى الشام إلى مصر، وإن عليه ألا يجعل الحقيبة رداً على العنف. وتقول لهم جميعاً بأن الالتجاء إلى تركيا أو إلى إيران أو إلى الغرب سيؤدّي إلى تعزيز نفوذ ومصالح هذه الدول لا إلى تعزيز مصالحه. ولذلك تدعم الكثير منها ظواهر مثل داعش، ثم تدعم القضاء عليها لتعميق الشروخ والدمار والتخلّف ومنع نشوء دول حديثة، حقيقية.

- غياب العدالة الاجتماعية الذي  يجد جذوره في النظام الاقتصادي من جهة، وفي استشراء الفساد الإداري والسياسي والمالي.

 - غياب الإحساس بالكرامة: الكرامة الوطنية من جهة، والكرامة الفردية من جهة ثانية. ولننظر إلى التاريخ وسيكولوجية الشعوب، فلطالما تبلورت الوحدة الاجتماعية في أوقات الانتصارات وتمظهر التفسّخ في أوقات الهزائم. ولطالما قاتل المواطن المُرتفع الإحساس بكرامته أكثر وأقوى من المواطن المُستلب، الذي إن قاتل، فليهدم لا ليبني ولحساب مَن يشغّله لا لحساب بلاده وأهلها.

خارطة طريق طويلة، تمتد لعقود طويلة، لكن لا خلاص لنا في كل بلاد العرب أوطاني إلا بها. وخاصة في هذا المشرق العربي التعدّدي.