الاحتلال الأميركي بعد تحرير الموصل
الاحتلال الأميركي في العراق والمنطقة يتحمّل المسؤولية الأولى والأخيرة عن كل الكوارث التي نشأت من وجوده. وما يُسمّى بالحل "السياسي" لا مفرّ من أن يبدأ من القوى الاجتماعية والسياسية الوطنية الحيّة في العراق، وأن يكون برنامجها في التعاون ضدّ الاحتلال، وإفرازاته داعش ومشتقّاتها.
خلاصة المقالة أن المعركة مستمرة ونتائجها المُثمرة تتعلّق بمادتين، الأولى البقاء أكثر من اللزوم في العراق، والإصرار على تثبيت المهمات السياسية المطلوبة والتي تعكس بدقّة موازين العمليات العسكرية الناجحة التي أدّت إلى "طرد" داعش من الموصل .
من هذه الزاوية يؤكّد الكاتب الأطروحات التي تنبّأ بها المؤرّخ الهولندي مارتن فان كريفيلد، بأنه من الصعب جداً أن تحدّد الأطراف المُختلفة مواقفها السياسية قبل أن يهدأ غبار المعركة وتتشكّل توازنات القوة بناء على المعطيات العسكرية على الأرض. وهذه تعتمد في جوهرها على بناء حاجز ناري ضخم للسيطرة اللوجستية على الصحراء الممتدة من الموصل إلى شمال الجزيرة العربية.
لكن كارتر الذي وضع الكثير من ماء أكاذيبه في خمرة أحلامه يجزم بأن أميركا هي التي "خلّصت" الشعب العراقي من داعش، وأنها عالمياً هي القوة الوحيدة القادرة على إنجاز ذلك. من هنا فلا بدّ من توجيه النقد الصارِم لمقولة: أن هذا الكلام الفريد الذي تتضافر عوامل عدّة لجعله "موقفاً" لم يحصل سابقاً، ويمكن أن يتكرّر مرة أخرى!
هنا ترتفع مُتلازِمة نقد السلاح مع سلاح النقد في صورتيّ التحرير المؤزر والآثار التدميرية حيث تحوّلت الموصل والعراق، إلى غابة هوبزية مترنّحة .إن أولويات الفحص المنهجي لكلمات كارتر تفرض الرجوع دائماً إلى الماضي "البكر" والذي مازال يبرق في سماء الاحتلال وجرائمه. ذلك لأن أحد الكتّاب المهمّين في بريطانيا وهو تشارلي ونتر في مجلة أتلانتك – 3 تموز/يوليو الجاري، قد شرح بإسهاب عنوان كتابته بأن داعش خطّط منذ وقت طويل لهزيمته في الموصل.
فحوى المقاربة أن داعش اجتاح أرضاً "للسلطة" السياسية ليفرض نموذجه الخاص في الإسلام السياسي ويستفزّ كل القوى الاقليمية والعالمية ضدّه سوقياً أو تعبوياً. إن غاياته هي مختلطة عسكرياً وسياسياً وتستند في قناعاتها إلى تضليل كل "الأعداء" والاستفادة القصوى من تناقضاتهم الجوهرية. وفي نقاط مضغوطة حقّق داعش في هذه الهزيمة :
1- البقاء ممكن حتى في التعارُض بين "الأرض والسلطة" مادام هو قوة مادية تدعمه بيئة معارضة.
2 – ومن هذه الناحية تبقى الموصل دعامة أساسية في التعبئة والقتال الدوري بالرغم من إنها في قبضة الحكومة.
3 - لكن التعويل المركزي هو دفع القوى السياسية جميعها إلى أن تُصاب "بفقر الدم" الحاد والذي يتكثّف بتراجع قوة القرار الحاسم حول مَن يحكم المدينة لاحقاً .
لكن دائرة الفراغ المُصطنعَة عند ونتر كانت عاجزة عن تفسير: أن داعش أعطى الانطباع البليغ بأن الأخدود ضيّق بين من يريدها للاستفادة منها في الصراع وبين من يرفضها ويحاربها ولو زيفاً، تمرق من خلاله داعش من دون أوهام سياسية أو حدس جغرافي أو حاسّة سادسة حول خسائره المنتظرة.
هل يحاول ونتر أن يخفي أشياء معينة أم هو يجهلها. لن تكون أبداً مجازفة إذا ما عدنا إلى أرشيف الاحتلال ولاسيما بعد نهاية عملية الاندفاعة في عام 2006 والتي أنجزها الجنرال ديفيد بيترايس قائد قوات الاحتلال الأميركي مع مجموعة من مساعديه والسفير الأميركي ريان كروكر في حينها. فقد أصدر العقيد جويل رايبورن وهو مساعد للجنرال بيترايس، دراسة طبعها "معهد هوفر" تحت عنوان "العراق بعد أميركا "- آب 2014 ، وقال فيها إن داعش قام بالمهمة التي كتبها ديفيد كيلكولين، المستشار الأسترالي للجنرال بيترايس، في مخطط محاربة النفوذ الإيراني في العراق والمنطقة والتي فشلت "الصحوات" العشائرية العراقية في تحقيقه.
من هنا بدأت نظرية "المارد السنّي" بمواجهة "الهلال الشيعي". علماً أن كتابة كيلكولين كانت هي "خطة الحملة المشتركة" التي أرسلت في تموز/ يوليو 2007 إلى إدارة جورج بوش الإبن من قِبَل كروكر – بيترايس مع مجموعة من المساعدين العسكريين في جيش الاحتلال. وقد علّق كيلكولين فيها: "الحرب الأهلية الحقيقية لم تحدث لحد الآن". أما مساعد بيترايس التنفيذي، العقيد بيتر منصور، فقد كانت لديه رؤية أن هذه الحرب لا يمكن تجاوزها في سنوات عديدة.
أما كاتب مسودّات مُطالعات بيترايس وخبير المعلوماتية في الأمن الأميركي القومي تشارلي ميلر فقد يُبهرنا بتوقّعه! حين يردّد "نحن في صدد إنشاء القاعدة الملائمة لإعادة إعمار العراق ما بعد الحرب الأهلية القادمة إذا انتهت"، لأن الصدامات تستمر إلى عقد قادم.
بهذا المعنى فإن الحروب المستمرة التي تقودها أميركا وخاصة الآن في إدارة دونالد ترامب لن تكون أيضاً إلا محطة "جديدة " في "حروب الإهانة" التي يتحدّث عنها كبار الكتّاب الأميركان والتي هي في تصوّرها "للحلم الأميركي" العالمي تتطابق بصورة مُدهشة مع نموذج "يوتوبيا" الجهاد الإسلامي الذي يسعى إلى تطبيقه داعش، والذي يتلخّص بأن صيغة الفكرة أكبر من صيغة "السلطة" والتي هي في تناول يدها في الوقت الذي تختار ما دامت البيئة مواتية عند داعش الماضي "المستعمل" والمكرّر حالياً في الدولة الإسلامية العالمية.
وعند "أميركا" اندغام الحاضر والمستقبل في "الاستثناء" الأميركي القادر على التغيير المطلوب. ثم أن الحال الافتراضية لدى الطرفين تستدعي أيضاً "المقارنة" المفتوحة حتى لو احتوت على مخاطر جمّة. ألا (يقود) داعش معركة شرسة ومهمة أخرى مع القاعدة على الصعيدين الاقليمي والعالمي ويقاتل من أجل الهيمنة على القرارين السياسي والعسكري على صعيد "الجهاد الإسلامي" تاريخياً .
بهذا المعنى إن داعش متناظر مع الامبريالية الأميركية في جعل "الفكرة" المُرسّخة الآن بكونها وقود العمل المسلّح الدائم من أجل تحقيقها. وهو هنا أيضاً يجزم سوقياً بأن الأفكار تظل كلمات لا يمكن تحقيقها إلا بالسيف وأن "الخطأ" التعبوي المتعمّد سوف يخدم السياق السوقي المندفع عاجلاً أم آجلاً .
إن الاحتلال الأميركي في العراق والمنطقة يتحمّل المسؤولية الأولى والأخيرة عن كل الكوارث التي نشأت من وجوده. وأن ما يُسمّى بالحل "السياسي" لا مفرّ من أن يبدأ من القوى الاجتماعية والسياسية الوطنية الحيّة في العراق، وأن يكون برنامجها في التعاون ضدّ الاحتلال، وإفرازاته داعش ومشتقّاتها. هو تطوير للرأي السياسي الصادق والذي تثبته التجربة التاريخية بأن الماضي هو الحاضر الذي يفرّق من أجل سوء فهم المعضلات. وأن الحاضر هو المستقبل الذي يجمع الكل من أجل الحركة والبناء واستئصال المُعضلات.