لم يكن للحق نصير لتنصره قلوبنا
لست قومية، ولا أحب الفكر القومي. ولست إسلامية بالطبع. ولا أنتمي لأيّ تيّار محدّد. إلا أنني إنسان. ما من إنسان يعرف قدر إنسانيته التي حباها الله له يرضى بوجود كيان تأسّس على العنصرية، والبلطجة، واعتبار الاحتلال نضالاً، والإرهاب بطولة.
أتذكّر في بداية ثورة 25 كانون الثاني/ يناير، وقت أن اعتصمنا أمام سفارة الكيان الصهيوني، وأوراق السفارة تتطاير من النافذة بعد أن دخل بعض المُتظاهرين إلى السفارة رافضين وجودها على أرض مصر الثورة، والشاب الذي خاطر بحياته وتسلّق البناية الشاهقة، ليُنكِّس العَلَم الصهيوني. ثم انتقل فوراً، عقب ست سنوات من الثورة المأسوف عليها، لإشهدنا شاهدنا ونحن كالملقى في بدروم، مُكبّل مُكمّم، يحاول أن يخترق الكمامة التي على فمه بأنين لا يُسمَع وسط صخب الزفّة الزائفة المنصوبة في الطرقات وهم يغنّون لمن كمّمنا وأجهض ثورتنا: يا نجف بنور يا سيّد العرسان. أطالع هجمات اللجان الإلكترونية ومؤيّدي النظام المُتحدّثين عن الفلسطينيين الذين باعوا أراضيهم! أريد أن أقول: وحياة خالتكم؟ وتيران وصنافير؟ لكن لا أحد يسمع، الصخب والضجّة يكتمان أيّ صوت سوى صوت الطبّالين والمُهلّلين والمدفوعين لترديد أقوال وأفكار لا تعبّر عنا، ولا عن جموع الناس التي ترزح تحت نيْر الغلاء والخوف، لكن الصورة المُصدَّرة للعالم أن المصريين أصبحوا يتمتّعون بقدْر وافر من الخِسّة والدناءة. أقسم بالله لم يحدث.. وأذكر كلمات أبي الشاعر أحمد فؤاد نجم: هم باعوا البندقية والوطن والجلابية واحنا مابنبيعش مصر... يا عرب من قلب مصر.. اسمعوا صوت شعب مصر. لكن، لا صوت لشعب مصر الآن. ملقى في البدروم. اذكرونا. نحن لا نحب إسرائيل ولا نقول عن ضرب غزّة ما قاله لجان النظام: اللّهم اضرب الظالمين بالظالمين. نحن لا نقول عن المقاومة أنها إرهاب. نحن لا نعطي للفلسطينيين دروساً في حُسن الخلق والأدب في التعامل مع المحتلين، ولا نصف المستوطنين بالمدنيين العزّل.أذكرونا. نحن وقت أن غابت السلطة الغاشِمة تسلّقنا البنايات لتنكيس علَم إسرائيل. اذكرونا. نحن من ذهبنا في ذكرى النكبة للاعتصام أمام سفارة الكيان الصهيوني مطالبين بغلقها. اذكرونا. لا تنسونا، فقد نسينا العالم، ولم يبق على السطح سوى أجير أو ذليل أو حقير أو مشوّش، وهؤلاء ليسوا السواد الأعظم. فاذكرونا ولا تنسونا. تسبّبت الثورة، مشكورة، في تحوّلات فكرية كثيرة جرت على الفقيرة إلى الله، تبيّنت زيف أشياء، وسذاجة أفكار، وخلل مفاهيم، لكنني أبداً لم أتغيّر حيال القضية الفلسطينية.
لست قومية، ولا أحب الفكر القومي. ولست إسلامية بالطبع. ولا أنتمي لأيّ تيّار محدّد. إلا أنني إنسان. ما من إنسان يعرف قدر إنسانيته التي حباها الله له يرضى بوجود كيان تأسّس على العنصرية، والبلطجة، واعتبار الاحتلال نضالاً، والإرهاب بطولة. ما من إنسان يريد أن ينام وهو راض عن نفسه بدرجة ما يقبل بأن يسلب شعب كامل أرضه وهويته وتاريخه بمزاعم خرافية، مبنية على اعتقادات ليس لها في التاريخ أو العلم مكان. العالم، كل العالم، يتحدّث عن حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وحقوق الأسرى، وحقوق الرأي، وحقوق التعبير، وحقوق الحيوان، ويُدين بعضه البعض بانتهاك كل هذه الحقوق الهامّة، كل ذلك يحدث في أثناء قبول بوجود احتلال عنصري ديني متطرّف استيطاني، والتعامُل معه، بل وتمجيده وسنّ قوانين لحمايته من الانتقاد في بعض دول العالم المتحضّر. هذا النفاق والادّعاء والتدنّي الأخلاقي لن يجبرني على قبول ما تعافه إنسانيّتي لمجرّد أن العالم كله يقبله، وكما قال إمام المُتّقين علي بن أبي طالب: لا تستوحشوا طريق الحق لقلّة سالكيه. ماذا لو أن المجتمع الدولي استيقظ ذات صباح ليؤسّس دولة لداعش؟ لو قبل العالم.. هل ستقبل؟ ربما يقبل البعض.. لكنني لن أقبل. عقب أن قامت إسرائيل بنشر صورة لآثار دماء في إحدى المطابخ وعلّقت عليها بأن "إرهابياً" فلسطينياً قام بقتل إحدى المستوطنات المدنيّات العزلاوات المُسنّات، خرج علينا مُعلّقون، بعضهم مُغرِض، وبعضهم حسن النيّة، وبعضهم ساذج، وبعضهم حرّك مشاعره مشهد الدم، ليقولوا بأن هذه جريمة غير مقبولة، وأردفوا يُسهبون في إسداء النصائح للفلسطينيين في مزايدة أخلاقية عجيبة. أنا لا أحب مشهد الدم. بل أكرهه. لكن، وكما يقول مريد البرغوثي: عليك ألا تبدأ الرواية من "ثانياً."! الدماء التي سالت على أرض المطبخ هي "ثانياً" من القصة الطويلة أعجب أشدّ العجب أنني مضطرة لإعادة روايتها بالرغم من شيوعها. هذا مطبخ لبيت، البيت في إحدى المستوطنات، كانت تقف فيه مستوطنة، هذا البيت على أرض، هذه الأرض كانت مملوكة للسكان الأصليين الذي طُرِدوا من دون وجه حق، ومن دون مسوِّغ سوى بعض التفسيرات التوراتية التي لا تعني أحداً سوى المؤمنين بها، وغير مُلزِمة لأحد في العالم على الإطلاق، كما أنها لم تثبت صحّتها العلمية والتاريخية. جاء جيش، وجاء مستوطنون مدجّجون بالسلاح – نساء ورجالاً – ليُخرِجوا السكان الأصليين من بيوتهم وأراضيهم عنوة وتحت تهديد السلاح، وفي أحيان كثيرة باستخدامه، ثم بُنيت المستوطنات، وسكن هؤلاء المسلّحون في سكن أصحاب البيت الأصليين، فقرّر أصحاب البيت أن هذه أرضنا ولن تشعروا بالأمان فيها، وسنبذل قصارى جهدنا لنذيقكم نكد العيش والرّعب حتى تخرجوا.
أليس هذا هو ما تفعله كل حركة مقاومة ضدّ الاحتلال؟ هل هناك أمّة في الدنيا قبلت بدخول قوات احتلال؟ وأيّ شعب قَبِل بخروجه ليحلّ المستوطنون الأغراب محله؟
هناك توضيح بسيط لأصحاب الدروس والمواعظ الأخلاقية عن حرمة الدم، واستحلال المدنيين، واحترام المُسنّ، والمرأة، حتى بلغ التبجّح أن ذكروا الفلسطينيين بوصايا الرسول عن ضرورة عدم قطع الشجر، أو الاقتراب بسوء من امرأة أو طفل أو عابد في معبده!
التوضيح: الفلسطينيون ليسوا في حرب مُتكافئة بين جيشين حتى تنهالوا عليهم بالمواعظ. هؤلاء شعب تحت الاحتلال، خرج عنوة وبالقتل والتنكيل من داره وأرضه، وهم ليسوا تحت ظروف طبيعية وعادية.
القصة تبدأ بأولاً: قامت جماعات إرهابية صهيونية باقتراف الفظائع في العالم، وكانت داعش عصرها، حتى قرّر المجتمع الدولي، عقب الحرب العالمية الثانية، أن يتخلّص من صداع هذه الجماعات، وفي ذات الوقت يكافئها على مساهمتها في هزيمة النازي، بأن يقطعها أرضاً مملوكة لشعب آخر. خرقت الصهيونية القانون الدولي، والإنساني، والأخلاقي، واعتدت على المدنيين في كل العالم، وأخيراً في فلسطين، لتؤسّس دولة طائفية، دينية، متطرّفة، إرهابية، تخلط الدين بالعنصر، وتحتل أراضي الناس. ثانياً: قاوم السكان الأصليون. فتركتم أولاً وبدأتم من ثانياً. ثم ألقيتم باللوم على الضحية، ووصمتم المعتدي بإنه مدني وأعزل وبريء ومسكين ومُسنّ وامرأة هي امرأة، ومتدرّبة في الجيش الصهيوني وشاركت في قتل الكثير، وقد تكون شاركت في حرب ال67 والتي أجبر فيها جنودنا على حفر قبورهم بأنفسهم، وربما كانت إحدى المجنّدات اللاتي قتلن جنودنا. وهي مُسنّة، اقتحمت بيوت الناس بالقوة، وطردتهم بالسلاح.
بقول آخر، وبالعامية المصرية: دي مش أمّك اللي عندها سبعين سنة وقاعدة تقرص كعك وتعمل لك محشي وتقول لك وأنت نازل: ربنا يوقف لك ولاد الحلال يابني. هي عنصر عسكري، تحمل سلاحاً، وقامت بفعل عسكري، مجرّد وجودها في مستوطنة هو فعل عسكري يستوجب الدفاع عن النفس، وهذا "المجرم الأثيم، والقاتل اللئيم" شاب مشرّد، قتل ماضيه، ولا ينتظر المستقبل. لم يعش طفولة طبيعية يلعب ويلهو ويلوّن الزهور والأشجار، قضى طفولته يرسم ما يراه في شارعه: جندي يهدّد أبيه بالسلاح في أحد المعابر. ولم يدرس بشكل طبيعي في المدرسة أو الجامعة، لإنه يقضي نصف عمره على نقاط التفتيش. لم يشاغل ابنة الجيران من النافذة، لأن تحت نافذته أصوات رصاص. لم يجد والداه وقتاً لإسداء النصائح المعتادة مثل "خلّلي بالك من مذاكرتك... بطل فرجة على التلفزيون... عيب تكلم حد أكبر منك كده..” لإنهما انشغلاً عن ذلك بنصحه أن يتجنّب الردّ على المجنّد في نقطة التفتيش، وأن يبتعد إذا ما مرّ بمكان سمع فيه إطلاق نار، وأن يأخذ حذره وهو يسير إلى مدرسته من الأجسام الغريبة.
الناس تحت الاحتلال ليسوا في ظروف عادية حتى تسدوا لهم نصائحكم العادية الممجوجة.
والمقاوم تحت الاحتلال يفعل كل ما بوسعه حتى يطرد المحتل، ولن يعامله برحمة ثانياً، لإنه لم يذق رحمة أولاً. واختصاراً للأقوال، لماذا لا يعود بعض المواطنين الصالحين لقراءة ما هو مدوّن على الشبكة العنكبوتية عن المقاومة الفرنسية تحت حكم النازي؟
قلت المقاومة الفرنسية، ولم أقل مثلاً المقاومة الجزائرية، لأن هؤلاء عرب.. يععععع. فلنقرأ عن الفرنسيين ومقاومتهم للاحتلال النازي، وكيف أنهم اتهموا بالإرهاب، وكيف فجّروا السينمات والحدائق والمطاعم، وكيف قتلوا المتعاونين مع الاحتلال من "المدنيين العزّل الأبرياء المُسنين النساء الكتاكيت القطاقيط البطابيط"، وكيف قاموا باغتيالات. أليست هذه فرنسا التي وضعتم علَمَها على صفحتكم و je suis ما أعرف إيه؟ فلماذا تقبلون من الفرنسيين ما تنكرونه على الفلسطينيين؟ حاضر.. حاخليهم يصبغوا شعرهم أصفر ويلبسوا عدسات زرقاء إن كانت هذه هي العقبة الوحيدة في طريق فهمكم لقضيتهم.