لماذا لا تقوم مصر بالردّ على إسرائيل بوثائق كما تقوم إسرائيل بنشر وثائق؟
استعرتُ العنوان من اسم فيلم مصري كوميدي بطولة عبد
المنعم إبراهيم اسمه "سرّ طاقيّة الإخفاء"".
نتحدث هنا عن الملاك الإسم الكودي للراحل أشرف مروان
المهندس الكيميائي وأحد ضبّاط الجيش المصري، وزوج ابنة الزعيم جمال عبد الناصر. وهو لقب أطلقته
عليه المخابرات الإسرائيلية.
قبل الذكرى الثالثة والأربعين لحرب أكتوبر بشهر واحد،
صدر كتاب في إسرائيل بعنوان "الملاك" يستعرض وثائق
لإثبات أن أشرف مروان كان جاسوساً إسرائيلياً أنقذ إسرائيل، وقدّم لها معلومات
ثمينة، لولا أن جهاز الاستخبارات الإسرائيلي لم يتمكن من تعديل خطّته وفقاً
للمعلومات التي قدّمها العميل أشرف مروان على حد تعبيرهم.
هذا ليس أول كتاب يصدر بشأن أشرف مروان في إسرائيل.
منذ اغتيال أشرف مروان في يونيو 2007 وحتى اليوم،
تتحدّث إسرائيل عن جاسوسها الغالي الذي خدمها وقدّم لها معلومات قيّمة، وفي
المقابل صدرت من مصر بعض التصريحات الرسمية، إلى جانب تصريحات أسرة الفقيد تقول
فيها بأن الرجل كان عميلاً مزدوجاً لصالح مصر وأنه خدع إسرائيل، ووصفه الرئيس
المخلوع محمّد حسني مبارك بـ"الرجل الوطني" وحضر جنازته
لفيف من الشخصيات الهامّة في مصر.
نحتاج هنا إلى مصدر مُحايد كي نتأكّد من صدق أي من
الطرفين فلا يمكن الجَزم بصدق إسرائيل، فإذا كان الرجل قد خدم إسرائيل بقوة فلماذا
لم تقم إسرائيل بحمايته؟ ولماذا لم تستجب لمعلوماته القيّمة وتتفادى ما حدث لها في
يوم السادس من أكتوبر، حيث يقول الكتاب بأن حرب يوم كيبور كادت تودي بوجود إسرائيل
لولا التدخّل الأمريكي.
على الجانب الآخر إذا كان الرجل وطنياً بحق كما وصفه
مبارك، وإذا كان عميلاً مزدوجاً لصالح مصر قام بخداع إسرائيل، وإذا كان قدّم خدمات
للوطن كما ذكرت بعض التصريحات الرسمية المُقتضبة، فلماذا لم تكلّف السلطات المصرية
صالح مرسي – رحمه الله – أو أي كاتب آخر غيره بكتابة مسلسل عنه، فالسلطات المصرية
تحب التباهي بعملياتها الاستخباراتية الناجحة.
ثم لماذا هذا الاقتضاب في التصريحات المصرية بشأن
الفقيد؟ ولماذا لا تقوم مصر بالردّ على إسرائيل بوثائق كما تقوم إسرائيل بنشر
وثائق؟
إذا تساءل أحدهم: لماذا تنشر إسرائيل هذه الوثائق؟
فالإجابة معروفة في تعبير مصري دارج "بتعلم على وشنا".. الترجمة: تتباهى علينا بخديعتها لنا، خاصة في
خِضمّ احتفالاتنا بانتصارنا الوحيد عليها.
هناك شيء غامض في قصة الراحل أشرف مروان، ولا يسع
المواطنون المدنيون العُزّل من أمثالي إلا محاولة تأمّل الموقف والتخمين للكشف عن
غموضه عبر مقارنة ما توافر من الجهتين من معلومات.
قلنا نحتاج إلى مصدر مُحايد لحسم الأمر. لكن هذه
إسرائيل. لا يوجد مصدر مُحايد حين يتعلّق الأمر بإسرائيل، فإما معها قلباً وقالباً،
وإما ضدّها قلباً وقالباً.... وهناك من اختار موقفنا المصري: ضدّها بس مش ضدّها قوي، معها بس مش
معها قوي. يعني هي عدوّ تاريخي، يحظى بكل مشاعر الغُل والكراهية الشعبية، لكن سياسياً
لنا معها اتفاقية سلام وتعاون في مجالات عدّة. وهناك اعتقاد سائد عند العامّة بأنه
سيأتي يوم وتُحارب مصر فيه إسرائيل وتنتصر عليها، لكن ذلك سيحدث قبل يوم القيامة... بعد ظهور
المسيح الدجّال مباشرة.
ما أهمية أن نعلم الحقيقة خلف أشرف مروان؟
بالنسبة لي كمواطنة مصرية مدنية عزلاء، يهمني أن أعلم
إذا ما كانت إسرائيل استطاعت بالفعل تسلّق الهرم المصري والوصول إلى قمّته،
والدخول في عقر دار زعيم العرب الأوحد وقتذاك، جمال عبد الناصر. لأن ذلك إذا تُكشَف
صحته فربما فسّر أشياء كثيرة حدثت وتحدث في مصر، وإذا ظهر كذبه، سيبعث الطمأنينة ربما في قلبي أنا شخصياً.
تقول الرواية الإسرائيلية بأن الراحل أشرف مروان كان قد
سَئِمَ استخفاف الزعيم الراحل جمال عبد الناصر به، حيث كان ينظر إليه بوصفه الشاب المُتسلّق،
تزوّج من ابنة الرئيس ليحظى بفُرَصٍ كبيرة لجمع المال والحصول على مركز اجتماعي
مرموق، ولذلك فقد تحجّج مروان بآلام في معدته وسافر إلى لندن كي يجري بعض الفحوصات
والتحاليل، واختار طبيباً عُرِف باتّصاله بالموساد، وكان قبل ذلك قام بدور الوسيط
بين الموساد وبين الراحل الملك حسين بن طلال (وهذا موّال آخر.. الملك حسين
كان على اتصال بالموساد؟)، وقام بتسليم الفحوصات مع مجموعة من الوثائق والمعلومات
إلى ذلك الطبيب الذي تمكّن من توصيله بالموساد... وهذا يُذكّرني بمشهد رأيته في مسلسل "دموع في عيون وقحة" في طفولتي، حيث كان يقوم الفنان رشدي المهدي بدور طبيب
أسنان في مصر على اتصال بالموساد.
لماذا تستخدم الموساد الأطباء؟
المهم... كانت الموساد بالطبع مُتشكّكة في أشرف مروان، لكنه سلّمهم
ملفات مُهمة بشأن التشكيلات العسكرية المصرية، بل سلّمهم خطّة العبور، وكل ما يتعلّق
بالأسلحة المصرية وغيرها من الأسرار العسكرية الهامة، حتى إن أحد قيادات الموساد
قال: عميل كهذا
بمعلومات كهذه لا يحدث ذلك إلا مرة كل ألف عام.
يمكن تصديق الرواية الإسرائيلية لكن يظلّ السؤال يتردّد: إذا كان أشرف
مروان قد سلّم الموساد خطّة العبور كاملة
وتشكيلات الجيش المصري وسلاحه... فلماذا لم تتمكّن إسرائيل من تفادي ما حدث في يوم كيبور؟
تقول الرواية الإسرائيلية بأن أجهزة المخابرات
الإسرائيلية كانت لها تحليلات مُغايرَة ولم تُعدّل هذه التحليلات والخطط وفقاً
للمعلومات الواردة من هذا المصدر.
ربما لتشكّك في مصدرها؟
لا أدرى... مش حاسّاها قوي... أقصد أن جهاز
بكفاءة الموساد كان من الواجب أن يضع في الحسبان المعلومات الواردة حتى ولو كان
يتشكّك في المصدر.
أما الرواية المصرية فلا تحمل الكثير من التفاصيل، كما
إنها لا تأبه للردّ على الرواية الإسرائيلية بوثائق مُماثِلة، أو برواية مُغايرة... أو حتى بمسلسل
بطولة عادل إمام أو فيلم بطولة نادية الجندي كما هو المُعتاد.
في حوار مع عمرو الليثي عقب وفاة أشرف مروان، تحدّثت
زوجته وابنة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، منى عبد الناصر، عن زوجها ولم تزد عن
قولها بأن "العدو" يكذب ويفتري على زوجها، وبأن "أشرف كان قمر"، وبأنها أحبّته من أول نظرة، وبأن عمو عبد الحكيم رآهما معاً في الحديقة
فقال لوالدها: العيال دي لازم تتجوّز، وبأنها طلبت قرطاً من الماس في يوم زفافها، ولم تجرؤ
على أن تفاتح والدها في ذلك، فطلبت من "عمو" عبد الحكيم فقال عمو عبد الحكيم لصديقه جمال: لو مش حتجيب لها الحلق حاجيبه لها
أنا... دي عروسة. ثم أصرّت أن يُضاء
الشجر في منشأة البكري بالأنوار، وكان والدها غاضباً جداً من هذا السفه، لكن
والدتها قالت له بأنها تريد أن تفرح بابنتها.
قصة إنسانية جميلة والله... ما هذا بحق السماء؟ زوجها مُتّهم
بالجاسوسية لصالح إسرائيل.. حلق إيه وأنوار إيه وشجر إيه وعمو مين؟
أخيرا، قرّر عمرو الليثي أن يقطع هذا الاسترسال الإنساني الجميل ويسألها: مَن الذي قتل
أشرف مروان؟ فأجابت: العدو..
فقال لها: مين العدو ده؟
قالت: هو عدو واحد.. إحنا عندنا عدو تاني؟
تمام... حقاً لا يوجد عدو آخر غير إسرائيل، على الأقل في العقل
الجَمعي المصري. إذن، فالسيّدة منى عبد الناصر تتّهم إسرائيل بقتل أشرف
مروان.
هناك أسئلة عدّة نريد الإجابة عليها كي نطمئّن لكذب الرواية
الإسرائيلية:
- ما الفائدة التي تجنيها إسرائيل من
قتل أشرف مروان بعد أربعة وثلاثين سنة من حرب أكتوبر؟ لماذا لم تقتله قبل ذلك حين
تكشّف لها خداعه؟ ولابدّ من أنها اكتشفت خداعه عقب يوم كيبور مباشرة، ولابدّ من
أنها تستطيع الوصول إليه وقتله في لندن حيث كان يتردّد على العاصمة البريطانية
بشكل دوري.
لكن السؤال سيرتّد
إلينا: وما الفائدة التي تجنيها مصر من قتله؟
والإجابة إنه ربما فكّر في كتابة مذكراته مثل الراحلة
سعاد حسني.
لكن... هل هذا يعني أنه عميل لإسرائيل؟
بالطبع لا.. لكنه لا يعني أيضاً أنه لم يكن عميلاً
لها.
السؤال الثاني: لماذا لا يُخرِج الجانب المصري الوثائق، أو حتى يروي روايته بخلاف حديثه المُقتضَب
عن بطولته في خدمة الوطن؟
ربما تأتي الإجابة: لأن هناك أسراراً استخباراتية لا
تريد السلطات المصرية الإفصاح عنها الآن.
نعم... يمكن أن تروي الرواية من دون استخدام الأسرار
الاستخباراتية التي لا تريد أن تفصح عنها، تماماً كما فعلت في روايتها لقصة رفعت
الجمّال وقصة أحمد الهوان، المعروفان إعلامياً برأفت الهجّان وجمعة الشوان.
أما أن تتركنا السلطات المصرية هكذا فريسة للرواية
الإسرائيلية ووثائقها التي تنثال علينا من كل حدب وصوب، فلا أظن أن هناك معلومة
استخباراتية أهم من ثقة المواطن في أجهزته.
وللسلطات المصرية أن تتخيّل التداعيات التي تتسلّسل في
عقل مواطن مصري حين يعلم أن الموساد تمكّن من الوصول إلى بيت جمال عبد الناصر ذاته: "هذا عبد الناصر زعيم الأمّة الذي كان يريد أن يُلقي بإسرائيل في البحر! فماذا عن
السادات الذي سالمهم وجلس يتبادل النكات مع غولدا مائير على رؤوس الأشهاد؟ وماذا
عن رجل عُرِفَ بفساده مثل مبارك؟ وبعدين موضوع الرمي من الشباك ده شكله شبهنا... قبل ذلك أُلقيت
سعاد حسني من الشرفة، وقبلها ألقي علي شفيق، مدير مكتب عبد الحكيم عامر، من
الشرفة، وكلهم يقعون من شرفات لندن!”
فلماذا لا تقطع السلطات المصرية الشك باليقين؟
كلّما حلّت ذكرى حرب أكتوبر التي نحتفل بها كانتصارنا
العسكري الوحيد في العصر الحديث، انهالت علينا إسرائيل بوثائق تخصّ جاسوسية أشرف
مروان تحديداً، فهل من مصلحة السلطات المصرية أن يشعر المواطن المصري بكل هذا
الارتياب والتشكّك؟ إذا كان لدى السلطات المصرية رواية مُتماسِكة وموثّقة تغاير
الرواية الإسرائيلية فلتطرحها أو تصارحنا بالحقيقة أياً كانت.
الشك حيقتلنا.