أميركا وإيران: حربٌ حربٌ، سلمٌ سلمٌ

لم تكن العلاقة بين إيران وأميركا سيئة من الأساس، لكنّها لخطب ما تحوّلت من اعتقاد إيراني بـ"الأميركي الطيّب" مقارنة بالبريطانيين والروس، إلى قناعة بأن "الشيطان الأكبر" يسكن واشنطن.

روحاني أمام تمثال الأميركي هوارد باسكرفيل في أحد متاحف مدينة تبريز (وكالة تسنيم)
لا يفهم أحد في الشرق الأوسط أميركا أفضل من الإيرانيين، ليس في الأمر تضخيم لقدرة طرف شرق أوسطي أصيل في الصراع، لكنه قراءة في مشاهد متعددة منذ خيبة الأمل الأولى صيف 1953، عندما أسقط الأميركيون بالتعاون مع البريطانيين أول تجربة ديمقراطية إيرانية وطنية عبر إنقلاب أطاح برئيس الوزراء حينذاك محمد مصدّق وثبّت محمد رضا بهلوي ملكاً على إيران لربع قرن.

ليس سراً أن النظرة الإيرانية للولايات المتحدة الأميركية قبل انقلاب 28 مرداد (بحسب التقويم الإيراني) كانت تغلب عليها الإيجابية بالمقارنة مع القوى الأجنبية الأخرى، كبريطانيا وروسيا، ولعلّ ما لا يعرفه بعض القراء أنّ الإيرانيين يحتفظون في مدينة تبريز شمالي غرب البلاد بتمثال لـ"شهيد أميركي" قضى خلال الدفاع مع ثلّة من أنصار الثورة الدستورية عن المدينة بعد حصارها من قبل قوات الشاه محمد علي قاجار الذي كان يريد إسقاط آخر قلاع الدستوريين بعدما كان قد استهدف مفاعيل ثورة 1906 المعروفة بـ"المشروطة" بقصف أول برلمان في العالم الإسلامي عام 1908 في طهران.

كان هوارد باسكرفيل المولود في نبراسكا عام 1885 أستاذاً في المدرسة الأميركية في تبريز ورفض اللجوء إلى قنصلية بلاده هناك وقاد ما يزيد عن المئة مقاتل قبل أن يقتل وقد أتمّ الرابعة والعشرين. ظلت ذكرى باسكرفيل ومن بعده مورغن شوستر، صاحب كتاب "خنق فارس" والرجل الذي جرى تعيينه أميناً عاماً على خزينة الدولة من قبل الدستوريين، تحمل صورة الأميركي الطيب في مواجهة الروسي الدموي والبريطاني الماكر والمستغل. قصة شوستر باختصار أنه كان متعاطفاً مع الإيرانيين في مواجهة البريطانيين والروس، ورفض التآمر على بلاد فارس حينها وتثبيت كونها مملكة فاشلة، ونظّم جمع الضرائب وصنع للدولة هيبة نسبية في مواجهة رجال الإقطاع السياسي الأمر الذي دفع روسيا القيصرية آنذاك لإنذار الحكومة والمجلس اللذين ساندا شوستر باحتلال طهران في حال لم يُطرد الأميركي. عارض المجلس الإنذار وتظاهر الناس هاتفين "الموت أو الإستقلال" لكن الضغط دفع بنجف قلي خان صمصام السلطنة رئيس الحكومة لعزل شستر حقناً للدماء. رحل الأميركي الطيب الآخر لكن ذكراه لم تترك قلوب الإيرانيين.

في ذات العام 1909 الذي شهد مقتل باسكرفيل وتعيين شوستر إنتهت ولاية الرئيس الأميركي ثيودور روزفلت الذي إختار خلال الثورة الدستورية عدم الإنحياز لأي طرف، رغم أن وزيره في طهران كان متعاطفاً مع الثوار، لكنّ حفيد روزفلت، كيرمت روزفلت رجل المخابرات المركزية الأميركية "سي آي إيه"، كان واحداً من بين رجال آخرين أنهوا رسمياً أسطورة الأميركي الطيب في الوجدان الجمعي الإيراني. ليس عجباً أن أوّل شعار بـ"السقوط لأميركا" كان في أصفهان عام 1953، حسبما يورد المؤرخ الإيراني إرواند إبراهيميان في كتابه "الإنقلاب"، حيث حاصرت حشود غاضبة مبنى القنصلية الأميركية في المدينة وهم يرددون "فلتسقط أميركا"، "أيها اليانكيز إذهبوا إلى بلادكم". كان مصدّق في ساعاته الأخيرة بعد نجاته من موجة الإنقلاب الأولى في 17 آب/أغسطس وبينما هو غافل عن موجة ثانية بعد يومين كان يلتقي بالسفير الأميركي لوي هندرسون أحد مهندسي الضربة القاضية التي انتهت برئيس الوزراء العجوز في إقامته الجبرية في مدينة أحمد اباد حتى وفاته عام 1967.

نهاية الأميركي الطيب عززت حالة التوجس الطبيعي من الخارج، لا سيما من الدول الكبرى، والتي نظّر لها الفيلسوف الإيراني أحمد فرديد عبر مصطلح "التسمم بالغرب" أو "غرب زدگي" والذي حوّله الكاتب الإيراني جلال آل أحمد إلى كتاب في العام 1961 ولا يزال حتى اليوم من الكتب الأكثر مبيعاً في إيران. أسّس هذا الكتاب لمشاهد عديدة في القادم الإيراني من السنوات، للتمرد على "الأجنبي المتآمر والمستغل المستعمر"، والأميركي أضحى في قلب التصنيف بما اقترفه بحق جنين الديمقراطية الإيراني كما سلف، وبتثبيته حكم الشاه، لا من خلال الدعم المباشر فقط، إنما عبر توفير بديل له عن البريطاني. كانت جدران عدم الثقة تعلو يوماً بعد يوم، وواشنطن لم تر حاجة لبذل جهد لنسج علاقة مع غير الشاه وحاشيته. ولعلّ قانون الحصانة للمستشارين والعسكريين الأميركيين في إيران الذي أقرّته حكومة الشاه في العام 1964 ثبّت النظرة السلبية بما لقي من اعتراض وصل إلى حدّ قول آية الله روح الله الخميني الذي كان حينذاك في بدايات صناعة ثورته "لو دهس خادم أميركي صغير، طباخ أميركي، مرجعاً دينياً وسط البازار لا حقّ لمحاكمنا بتوقيفه.... لو دهس الشاه نفسه كلباً لأميركي فسيحاكم، ولكن لو دهس طباخ أميركي الشاه، رئيس الدولة، فليس من حق أحد أن يعترض طريقه".

كان اعتراض الخميني على قانون الحصانة للأميركيين سبباً في نفيه خارج إيران، إلى تركيا، ومن ثم العراق، ومن ثم الكويت ومن ثم فرنسا، ليعود بعد 15 عاماً إلى إيران على رأس ثورة غذّت بذرتها سطوة الأميركيين في الداخل الإيراني وتفاقم الشعور الشعبي بالاستضعاف وبأن ثروات البلاد تستفيد منها القوى الكبرى، لا سيّما أميركا، بينما الشعب يعاني تحت سطوة أجهزة أمنية كالسافاك الذي كانت وكالة الإستخبارات المركزية الأميركية، إلى جانب الموساد الإسرائيلي، أحد أهم مؤسسيه.


بدا المشهد إيجابياً أكثر من المتوقع مع توقيع الاتفاق النووي إلى أن وصل ترامب

عاد الخميني في العام 1979 إلى إيران قادماً من فرنسا التي كان غادر إليها من الكويت التي لم تستقبله بعدما طالب الشاه العراق بإخراجه قبل بضعة أشهر فقط. كانت الولايات المتحدة في هذه المرحلة تعيش حالة من عدم التصديق كما يلمح النائب في الكونغرس الأميركي وليام بروكسماير، المهتم بالشؤون الإيرانية. يقول بروكسماير في مطالعته أمام الكونغرس بتاريخ 26 شباط/ فبراير 1979، أي بعد أيام فقط من نجاح الثورة، "ربما الأكثر إثارة للإضطراب كانت المعلومات التي فاتت أجهزتنا الإستخبارية عن التطورات الداخلية الدقيقة التي كانت تجري في إيران. وقد طلبت من الأدميرال ترنر (ستانسفيلد ترنر مدير السي آي إيه) إيلاء إهتمام أكبر بالمعلومات القادمة من إيران، بحيث تكون محدّثة ومفصّلة وموسعة على نحو أكبر. ردّه لم يقدم إضاءة جديدة على الأمر". 

يضيف بروكسماير في كلمته الطويلة التي تضمنت كل المراسلات مع وكالة الإستخبارات المركزية ووزارة الخارجية "يقول محلل في سي آي إيه في شهادة له في شهر كانون الثاني/ يناير الماضي (1979): حتى وقت قريب لم يكن بالإمكان الحصول على معلومات إستخبارية عن إيران. الإدارة كانت قلقة من أن تعرّض أي مراسلات تحمل نوعاً من السلبية دعم الكونغرس لبرنامج المبيعات العسكرية للخطر".


أصبحت أميركا في خطاب الإيرانيين "الشيطان الأكبر"، وأضحى الموت مرافقاً لها حيثما ذكرت. لم يكن اقتحام السفارة الأميركية في طهران سوى عملية إعلان رسمي إيراني لإنتهاء عملية التحول من "الأميركي الطيب" إلى "الشيطان الأكبر". في إيران هناك من يعتقد أن أميركا  مهّدت عن قصد أو عن غير قصد لشيطنة نفسها في الوجدان الإيراني، هم يستدلون بالإصرار الأميركي على تثبيت نظرية العداء في تجارب مختلفة، من الموقف من الحرب الإيرانية العراقية إلى سياسة العقوبات المتدرجة. لم يكن بالإمكان فتح كوّة في جدار عدم الثقة السميك، بل إن الجدار كان يتدثر بجدار إلى ما لا نهاية. 


فجأة ظهر في الأفق ما كان يمكن أن يكون عاملاً في هدم كل هذه الجدران، بل يمكن القول إن بعضاً منها سقط بمجرد إيجاد مساحة مشتركة حول الملف النووي الإيراني، الذي جمع بين وزيري الخارجية الأميركي والإيراني بين عامي 2013 و2015 مئات المرات. بدا المشهد إيجابياً أكثر من المتوقع، حتى ظنّ البعض أنّ شعار "الشيطان الأكبر" الذي تستخدمه إيران في مخاطبة أميركا، والتصنيف الأميركي لإيران كدولة "داعمة للإرهاب"، سيندثران مع الوقت، وأن عقيدة الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، التي استعارها من وزير خارجيته هنري كسينجر حول التوأمين الصنوين في المنطقة، السعودية وإيران، ستعود مع الوقت لتحكم استقرار الشرق الأوسط الهش. "الأميركي الطيب" عاد يظهر من بعيد، رآه رجل الشارع الإيراني، لمحه التاجر والصحفي والسياسي، حتى من يحمل الإيديولوجيا الثورية أو الدينية، شعر حقاً بأن النموذج في خطر، لكن القادم من بعيد لم يكن سوى دونالد ترامب، رئيس أميركا الخامس والأربعون، وقاتل "الأميركي الطيب" في العقل الإيراني.