"تركة أوباما" في القاهرة
مشهد مُهيب استقبلت به قاعة الاستقبال الكبرى في جامعة القاهرة الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأميركية. كان مُختلفاً ومُلفتاً أن يأتي الرئيس ذو البشرة السمراء "باراك أوباما" قاصداً أوّل ما يقصد مدينة القاهرة عاصمة جمهورية مصر العربية.
بدأ أوباما جولته في القاهرة برفقة وزيرة الخارجية "هيلاري كلينتون" بزيارة مسجد السلطان حسن، أحد أهم وأروع المعالِم الإسلامية في مصر والعالم أجمع، مهتمّاً –كالعادة الأميركية- بأدق التفاصيل، بداية من رفضه ارتداء "القبقاب" المُخصّص للسيّاح واكتفائه بالجوارب كالمُصلّين الآخرين، بالإضافة إلى حرص مرافقته على ارتداء الطرحة في مشهد يحمل رسالة احترام وبداية جديدة مع العالم الإسلامي والشرق الأوسط ككل، تلك البداية التي افتتحها بـ"السلام عليكم" اختتمها بالحقوق والحريات وقضايا المرأة والإصلاح الاقتصادي.
بين ذلك اليوم –الرابع من حزيران/ يونيو عام 2009- ويومنا هذا ما يقرُب من ثماني سنوات، امتلأت رأس ذلك الشاب خلالها بالشعر الأبيض وامتلأت يده بما فعل ورأسه بما رسم. بين ذلك اليوم بينما كان مقبلاً على حقبة جديدة في حياته والآن بينما يودّع تلك الحقبة قامت حروب واقتتلت شعوب وأصبح الصديق عدواً والعدو صديق وهاهو باراك أوباما يستعد لتوديع البيت الأبيض تاركاً تركة كبيرة أكثر غرابة وإبهاماً من ذلك المشهد الشكليّ الدعائي.
هل كان يعلم أن حسني مبارك الذي يقف إلى جواره في ذلك اليوم لن يظلّ في هذا الموضع بعد ثلاث سنوات؟ أغلب الظنّ أنه كان يعلم على الأقل أن عرش ذلك الرجل لن يتسمر على تلك الحال المُستقرة الواثقة. وربما كان يدور في خلده ذلك المشهد المهيب الذي استقبله به الحضور حينما قال عبارته الشهيرة لمبارك مطالباً إياه بالتنحي عن الحكم عام 2011 "الآن تعني الآن" وربما تُلخّص تلك العبارة تركة أوباما في العلاقات المصرية الأميركية، تركة التدخّل وأصابع الاشتباه وتدجين المعارضة المصرية وإفساد الحِراك الشعبي المصري الذي جاء مُكللاً لحركة وطنيّة مُتجذّرة في التاريخ المصري الحديث، استطاع ذلك الرجل –الذي بدأ عهده بالوعد بصفحة جديدة للمنطقة كلها- أن يختتم فترته الأولى بعبارات تحمل رعايته أو استعداده لرعاية أي فصيل مصري مُعارض طبقاً لأجندته وتصوّراته لسياسات المنطقة.
ربما خاب الكثير من تكهّناته في ذلك الشأن ولكنه على الأقل أعطى من الذرائع الكثير لإفساد أية نيّة تحرّرية في المنطقة. فمن جهة أصبح النظام يُشير بأصابع الاتّهام إلى كل صوت مُعارض، ومن جهة أخرى أصبحت القوى العُظمى وعلى رأسها أميركا تمارس هوايتها في صيد الأصوات المُعارضة تارة لقولبتها وتارة لتدجينها.
الشواهد كثيرة، فما من حِراك تبنّته إدارة أوباما في المنطقة إلا وأسفر عن كارثة كاليمن وسوريا وليبيا، أو عن ردّة في الشؤون التي استهدف الحِراك إصلاحها كما في مصر وتونس. ولكن الأمر في مصر كان أبعد من قدرة الإدارة الأميركية على الاحتواء، حيث أن الأطراف في مصر أكثر تشعّباً وتمرّداً وخروجاً عن المتوقّع من أن تستطيع جهة أن تتحكّم في نتائج حِراك أو انتفاضة أو حتى ثورة مُكتلمة.
أما المرحلة الثانية التي تلت ثورة يناير وخروج حسني مبارك من الحكم فقد شهدت محاولات مُتلهّفة من الإدارة الأميركية للسيطرة على مُجريات الأمور من خلال التقارب من المجلس العسكري ثم الميل تجاه وصول جماعة الإخوان إلى الحكم، وهو الأمر الذي تم بالفعل بفوز محمّد مرسي بالرئاسة. ولكن ومع بداية الحِراك ضدّ حكم الإخوان وجدت إدارة أوباما ذاتها أمام نفس المُعضلة الأميركية المُعتادة وهي أزمة الكيل بمكيالين. فكان السؤال هنا هل تصمت الإدارة التي لم تكفّ عن الحديث بمناسبة و من دون مناسبة لتعطي دول المنطقة دروساً في المعاملة الإنسانية للمعارضين؟ أم تتكلّم وتعترض مما يُعَدّ اعترافاً ضمنياً بجرائم قتل متظاهرين وتحريض أنصار الرئيس على الاقتتال الأهلي مع معارضيه من المعتصمين خلال أحداث الاتحادية (ك 1/ديسمبر 2012)؟
كانت هي المُعضلة والتي اضطرت فيها الإدارة الأميركية إلى الحديث المستحي عن الإدارة الإخوانية الجديدة التي وصفها أوباما بأنها "تتلمّس طريق الديمقراطية"، باعتبارها أصبحت تتلمسه على أجساد متظاهري الثورة التي اعتبرها أوباما "إحدى أعظم ثورات التاريخ". ولم يطل ذلك الأمر كثيراً خاصة بعد الإطاحة بمحمّد مرسي في حزيران/ يونيو 2013 والموقف الأميركي المُعلَن والرافض لتلك الخطوة. ومن هنا اكتسبت تركة أوباما الذي يحزم أمتعته الآن شكلاً جديداً لا يعتبر مصر حليفاً ولا عدواً.
والآن وبعد أكثر من ثلاث سنوات من تلك الحادثة وبعد وصول المُشير عبد الفتاح السيسي إلى سدّة الحُكم، يستعد باراك أوباما إلى ترك ذلك الملف لمن سيخلفه قبل أن يُغلق ويُحسم، مُخلّفاً حقيبة مفتوحة سيتركها في البيت الأبيض من دون موقف محسوم سواء من طرفه أو من طرف الدولة المصرية، تاركاً احتمالات لا نهائية لشكل العلاقات بين البلدين إما في ظل إدارة زميلته "هيلاري كلينتون" أو غريمه "دونالد ترامب" اللذين قابلهما الرئيس المصري كل على حدة خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة وفُتحت مع كل منهما ملفّات مختلفة.