المسكوت عنه في العلاقات السعودية – المصرية

يُخطئ مَن يظن أن التوتّر الحالي في العلاقات السعودية المصرية يعود إلى مشكلة نفط لم توصله شركة أرامكو إلى مصر بناء على اتفاقات مُسبقة، أو إلى حملات صحفية لرجال مخابرات بوظيفة صحفيين بوزن جمال خاشقجى هناك أو (س) أو (ص) هنا فى القاهرة! أو إلى تصريحات عنيفة لموظّف صغير (!!) بوزن سفير مثل (أحمد القطّان) دأب خلال فترة عمله على إهانة المصريين في عشرات المواقف ليس هنا مقام ذكرها، أو إلى تلميحات وزير أو نائب برلماني مصري أغضبته تصرّفات بعض أمراء الأسرة السعودية !.

مشكلة العلاقات المصرية السعودية ليست بسبب النفط بل بسبب اضطهاد الكفيل السعودي للعامل المصري

* في تقديرنا الأمر أبعد من ذلك بكثير، وحتى يستقيم الأمر ويصلُح كأساس للبناء عليه للتفسير الدائم مستقبلاً لطبيعة العلاقات (المصرية السعودية) دعونا نسجلّه في المحاور التالية:


أولاً: إننا وبشكل مباشر ومُختصر، أمام عقدة تاريخية تحكم تلك العلاقات منذ قرابة المائتي عام، وهي عقدة لم تُفك أواصرها بعد، ويُخطئ من المُراقبين والمُحلّلين مَن يتصوّر أن الزمن قد تخطاها أو أن بإمكان الملك سلمان وطفله المُدلّل (وليّ وليّ العهد): على الهامش: أنظر إلى نمطٍ  للديمقراطية التي تولّي على رقاب العباد مَن يظل حاكماً لها- من دون إرادتها أو اختيارها الحر - لعشرات السنين باسم (وليّ وليّ)!! ولا نظنّ أن الرئيس السيسى ومَن حوله أو مَن سيليه بقادر على تجاوزها وإن ادّعى ذلك.. إنها (عقدة الدرعية) وهي عقدة تقول سطورها وبإيجاز أن (المصريين بقيادة إبراهيم باشا ابن محمّد علي باشا والي مصر 5 سبتمبر (آب) عام 1816 (يعنى أكثر من مائتي عام ) قام بهدم أسُس الدولة السعودية الأولى التى كانت بلدة  الدرعية عاصمتها وكان يحكمها وقتها  الأمير عبدالله بن سعود (الجدّ الأكبر للأسرة الحاكمة الآن) وقام بأسره بعد هدم بيته وأرسله إلى محمّد علي باشا في القاهرة والذي أرسله بدوره إلى الآستانة ليقدّم فروض الولاء للخليفة العثماني، الذي طاف به وهو مُقيّد ذليل بأسواق الآستانة لمدة ثلاثة أيام ثم قتله.

* من هنا كانت البداية..

* (عُقدة الدرعية).. عُقدة قيام المصريون بهدم وتقويض أسُس الدولة السعودية الأولى التي كانت تعيث فساداً وإرهاباً ضدّ الإسلام الصحيح وضدّ  آثار ورموز النبي والصحابة  فضلاً عن حروبها المُتتالية ضدّ مصر والدولة العثمانية وقتها... وهي عقدة تراكمت كحالٍ نفسية وسياسية تاريخية ودائمة لدى كل الوارثين من آل سعود ضدّ المصريين بعامة، وحكامهم بخاصة، وأصبحت أشبه بالمرض النفسي الذي لا فُكاك ولاشفاء منه، وهو مرض ولّد كراهية تاريخية مُتراكمة من قِبَل هذه الأسرة السعودية تجاه كل ما هو مصري وتزايدت مع ظهور الحُكم الثوري الناصري بجُرأته ودوره القومي التحرّري، والذي أطار النوم لسنين طوال من عيون آل سعود، إلى أن تآمروا عليه مع الإسرائيليين والغرب وورّطوه في اليمن في الستينات ثم تآمروا عليه في حرب 1967، ليُهزم في مؤامرة دولية باتت الآن معلومة للمؤرّخين، ليُجبروه على الانحناء والطاعة بكل دلالاتها السياسية والنفسية التي ما تكاد تختفي في فترة تاريخية إلا وتظهر مُجدّداً. إلا أن عبدالناصر رفض، فقُتل مسموماً كما تقول الوثائق، ولايزال شعبه يرفض وهنا أصل المشكلة، لأننا أمام شعب حر، جيناته الحضارية وجغرافيتها وتاريخه..يقول ذلك وهو ما جعل (داء ) آل سعود معه، داء عُضال.. لا شفاء منه!!.

***

ثانياً: بيد أن الحديث عن (عقد) نفسية أو تاريخية قد يَستخفّ به البعض، أو يرونه غير موضوعى، إلا أننا إذا ما ربطناه بالحقائق على الأرض طيلة الثمانين عاماً الماضية وهي عمر الدولة السعودية الثالثة (1932 – 2016) حيث الأولى (1745-1818والتى هدمها إبراهيم باشا) والثانية (1824 – 1891)...سنجد حين نطبّق هذه (الكراهية) على الأرض والواقع السياسي سنجد لها مصاديق حقيقية، هكذا تقول وقائع التاريخ خاصة إبّان الحُقبة الناصرية، وهي وقائع ولّدت قانوناً سياسياً مهماً، نظنّه بات حاكماً ورئيسياً للمنطقة العربية، وهو (إذا ما قام الدور السعودي وصعد إقليمياً فإن الدور القومي المصري يتراجع والعكس صحيح، فإذا أرادت مصر حين يمنحها التاريخ فرصة للعب دور إقليمي رائد هو بحُكم الجغرافيا، طبيعى وبحُكم التاريخ منطقي، فإن الدور السعودي يتراجع وينتكس.. إن (عقدة الدرعية) ساعتها ستتراجع، ستضعف ولكنها لا تموت) إنها تنتظر الفرصة لتعود مُجدّداً، وهو ما يجرى الآن حرفياً ولكن على ساحات أخرى من الاقتصاد والإعلام إلى الدم والنار على الساحة السورية واليمنية في الحرب المُعلنة من الحكم السعودى ضدهما باسم الثورة تارة، أو إعادة الحُكم الذي يسمّونه بالشرعى حُكم (هادي) تارة أخرى!! وهو عين ما جرى في سراديب العلاقات السياسية والاجتماعية بين الدولتين السعودية والمصرية والمسكوت عنه تماماً، خاصة في ما يمسّ الشعب المصري وملايينه العاملة في تلك المملكة!!.

السعودية ترحل العمال المصريين المخالفين لشروط العمل
ثالثاً : إن مَن يُتابع – على سبيل المِثال - تاريخ اضطهاد (الكفيل) السعودي للعاملين المصريين سيكتشف جانباً مهماً لـ (عقدة الدرعية) حين تستيقظ، فنظام الكفيل يُعدّ من القضايا المسكوت عنها من قِبَل الحُكم في مصر والسعودية (معاً)، ويتعمّد المدافعون عن الحُكم السعودي من خبراء وصحفيين بالحق والباطل، وبعضهم من رجال الإعلام والسياسة من روّاد منزل السفير السعودي في القاهرة ومستقبلي عطاياه (وبالمناسبة ذكرهم موقع ويكيليكس الشهير بالأسماء في وثائق تجاوزت الـ 7 آلاف صفحة) ألا يقتربوا من هذا الملف المهم، ملف الكفيل بكل ذلّه ومهانته!!.


إن الجَلد وإهدار المُستحقات المالية والحبس، أو الطرد من العمل من دون حقوق، كلها عقوبات مورِسَت خلال الـ 40 عاماً التالية لوفاة عبدالناصر، هذا التاريخ القاسى في انتهاك حقوق المصريين باسم نظام الكفيل، وهو نظام عبودية قاسٍ ونادر ومعادٍ لأبسط حقوق الإنسان كما أكّدت وثائق منظمة العفو الدولية عبر تقاريرها المُتتالية منذ الثمانينات حتى اليوم، كان يُمثّل وبامتياز أحد أوجه تطبيقات (عقدة الدرعية) على مستوى المؤسسات العاملة وكأن مدراءها وأصحابها –وللامانة ليس الشعب شريكاً في هكذا عقد... فأغلب أهل الحجاز مُحبّين لمصر وشعبها لأسباب تاريخية مُتعدّدة ..الداء لدى الأسرة الحاكمة ومن التحفَ بها من إعلاميين ورجال أعمال ومُنافقيين - لقد  توارثوا من (آل سعود) العقدة ذاتها فانتشرت وأينعت، وعانى المصريون منها، وهي (عقدة) كانت أعلى نماذج تطبيقاتها هو (الجَلد) ولم يفلت من هذه العقوبة حتى مَن هم يعملون في مهن راقية كالأطباء والمهندسين والمدرّسين!! والأمر طبعاً لم يكن مساواة في تطبيق القانون أو العدالة، إذ تثبت إحصائيات عقوبة الجَلد  إن نسبة المجلودين من المصريين قياساً بالجاليات  الأخرى العاملة في المملكة قد وصلت خلال  الربع قرن الأخير إلى ما يقترب من 60 في المائة من إجمالى عدد الحالات ، هذا فضلاً عن أن ما استقرّ على تسميته في القانون الدولي بقِيَم (القانون – المساواة – العدالة.. إلخ) غائبة تماماً عن أصول الحُكم وسياساته في المملكة السعودية، والقول هنا للمنظمات الدولية العاملة في هذه المجالات وليس لنا فحسب !!.

رابعاً: والأمر لم يكن أمر (الكفيل) فقط بل امتد إلى مآسي الحجّ والعُمرة والقتلى من الحُجّاج المُداسين بالإقدام وبلا ثمن في كل موسم حجّ ، وامتدّ  أيضاً إلى مشاكل المُصدّرين، وعقود الشركات المُعطلة في التصدير والاستيراد، وإلى نمط التعامُل مع الإعلاميين المصريين وإلى تصدير الفكر والمال الوهّابي والعناصر والتنظيمات  الداعشية المُدمّرة للإسلام  وللأوطان  من الوصول إلى سيناء مروراً بحلب والرقة ، وغيرها من الحقائق والأدوار المسكوت عنها  التي تحتاج إلى مُجلّدات (وهو ما نعكف عليه حالياً في الموسوعة التي نُعدّها عن مملكة آل سعود فى 5 آلاف صفحة).                                                                       
إذا مددنا حبل التحليل على استقامته، سنجد أنه مع حُكم الرئيسين السادات ومبارك الممتد لأكثر من 40 عاماً من (1970-2011) كانت مصر الرسمية شبه خاضعة وتابعة للدور السعودي في المنطقة، تسير حيث سار، ولا تتعداه أو تعاديه، تطبيقاً قدرياً للقانون الحاكم لهذه المنطقة (إذا علا الدور السعودي تراجع الدور المصري .. وإذا تقدّم الأخير واستيقظ تراجع الدور السعودي وضعف)، وكانت الأسباب تعود إلى الاعتبارات الاقتصادية وأزمات الحُكم السياسية ومحنة كامب ديفيد (1979) وما تلاه من انتقال كامل للدور المصري إلى حيث المربّع الأميركي الذي لم يكن – وربما لفترة قادمة لن يكون – له من أصدقاء حميمين أو تابعين في المنطقة سوى النظام السعودي بنفطه، والكيان الصهيوني بدوره الوظيفي لخدمة واشنطن والغرب، لقد تراجع الدور المصري واستمرأ السعوديون هذا التراجع وظنّوه (حقيقة ثابتة) أو( قدراً إلهياً) لا ينبغى للمصريين أن ينقضوه، وحين ثأر الشعب المصري في 25 يناير 2011، وجمع في ثورته، ثورة أخرى ضدّ حلفاء نظام مبارك في المنطقة، فاقترب في ثورته من السفارتين السعودية والإسرائيلية، ما يمثّلانه من رمزية للتبعية والمهانة للمصريين، واقتحماهما مرتين في عام 2011،، فكاد آل سعود وسفيرهم في القاهرة أن يصابوا بالجنون، لماذا؟ لأنهم تصوّروا ولعقود طويلة من تبعيّة الدور المصري لهم، أن هذا الأمر-أي الطاعة والتبعية- يمتد إلى الشعب وأنه ليس من حق هذا الشعب أن يعضّ أيدي من أحسنوا إليه (رغم أن العكس هو الصحيح تماماً بحقائق عمليات البناء وعقود العمل للمصريين داخل المملكة وما أجزوه لصالح تحديث تلك المملكة عبر عقود طويلة) لكنهم تصوّروا أنه من المُستحيل أن ينتفض هذا الشعب ضدّ ممارسات المملكة السعودية  المهينة للمصريين ودولتهم،  وإنه ينبغى أن يظل مثل حكومته مُجرّد شعب تابع مُطيع ، وحين رفض، استيقظت مُجدداً (عقدة الدرعية) والكراهية المُتأصلة ضدّ المصريين، وكان الأشدّ تعبيراً عنها ممارسات سفيرهم أحمد القطّان، وفجاجته في التعبير عنها سواء في عيد دولته القومي!! أو صالونه الشهرى في السفارة والذي شهد استقطاباً لعدد من السياسيين والإعلاميين الذين دأبوا على تقبّل كل ما يتفوّه به هذا السفير ودولته من دون رد أو رفض، وكأن في الفم ماء أو نفط يحول دون ذلك!!. 


*توتّرت العلاقات المصرية السعودية بعد ثورة يناير وبعد اقتحام السفارة السعودية، ومحاولة إحراقها كرمز لزمن وعلاقات حسني مبارك، وامتد التوتّر واتّسع وتشعّب إلى أن جاءت ثورة 30 يونيو 2013، التي تواكبت أحداثها مع تورّط سعودي في المؤامرة الدولية على سوريا، التي هي بالنسبة إلى مصر العمق الاستراتيجي التاريخي، وحاولت السعودية ونظام الحُكم الجديد في مصر تجاوز الأزمات السابقة وفتح صفحة جديدة، خاصة مع وعود الدعم المالي الذي سيتدفّق، وكانت أزمة جزيرتى تيران وصنافير وخطأ النظام السياسي المصري في التنازل عنهما، ثم حُكم القضاء المصري برفض هذا التنازل مواكباً هذا بامتعاض سعودي رسمي من رفض مصر أن تلعب دوراً دموياً ضدّ النظام السوري بقيادة بشّار الأسد أو أن تتورّط أكثر في حرب اليمن الخاسرة (تُقدّر خسائر السعودية في مغامرتها اليمنية بما يتجاوز الـ 200 مليار دولار مع خسائر مماثلة لليمن فضلاً عن قرابة الربع مليون شهيد يمنى) وإزاء هذا الرفض المصري، والذي تم التعبير عنه في أكثر من وسيلة.. ورسالة ومنها مؤتمر جروزني الذي حضره شيخ الأزهر والذي أخرج (الوهّابية) من دائرة أهل السنّة والجماعة، ومنها التصويت لصالح القرار الروسي فى مجلس الأمن الذي يقوم على الحل السلمي للأزمة السورية في وجود الأسد في مواجهة القرار السعودي المُصرّ على الدم.. والموت للأسد وللسوريين، وغيرها من (الرسائل) و(القرارات) التي تقول أن مصر تريد علاقات (طبيعية) و(ندّية) وليس علاقات تبعية، فما كان من (عقدة الدرعية) إلا أن استيقظت مُجدداً في قرار شركة أرامكو وتبعته قرارات أخرى منها توقّف السعودية عن إنشاء صندوق للاستثمار في مصر وقد تم الاتفاق عليه بين البلدين بقيمة 16 مليار ريال سعودي.


خامساً: لايزال التوتّر قائماً رغم الوساطة التي تقوم بها دولة الإمارات، أو تلك التي يتردّد أن الرئيس اللبناني الجديد ميشال عون سيقوم بها، أو غيرها.. لا يزال التوتّر قائماً ولا تزال عقدة (الدرعية) حاكمة لسلوك النظام السعودي تجاه مصر والمصريين!، لكن السؤال.. والذي قد يحتاج إلى مقالات أخرى قادمة، هل سيستمر التوتّر في العلاقات ؟ وهل سيظل الغرور السعودي والشعور بأنه (يُعطي) ومصر (تأخذ) هو الحاكم للعلاقات مستقبلاً؟ بمعنى أكثر دقّة هل ستظلّ (عقدة الدرعية) في تجلّياتها الجديدة وفي الألفية الثانية هي ذاتها العقدة التي حكمت الدولة السعودية الأولى وتسبّبت في انهيارها عام 1816؟ الإجابة للأسف: نعم، وإن بلغة جديدة ووقائع جديدة،  لأن القانون الحاكم لايزال سارياً.. ولايزال الشعور بأنهم يمنحون (عطايا) بلا مقابل للمصريين هو الحاكم للعقل السعودي الحاكم، رغم أن ملايين المصريين العاملين في السعودية هم من بين أبرز بُناة الدولة الحديثة في السعودية، بمعنى أن الأمر كان له مقابل سواء على مستوى العمالة والبناء، أو على مستوى الأدوار الإقليمية المُتداخلة وذات المنفعة المشتركة في العهود التي تلت جمال عبدالناصر، تحديداً عهدي (السادات ومبارك).. فلماذا هذا الشعور السعودي بالاستعلاء على مَن هم أصحاب فضل على المنطقة.. بل والعالم، بما في ذلك دولتهم؟! طبعاً.. ربما تحدث مصالحات وتفاهمات بين قيادة الدولتين نتيجة التحوّلات الدرامية في المنطقة والعالم، ولكننا نعتقد إنها ستظل أقرب إلى المصالحات الظرفية المؤقتة منها إلى التحالفات الاستراتيجية بين الأنداد والشركاء لغلبة المِحن والعقد السياسية –النفسية التاريخية  كما أشرنا.


* إن التاريخ – كما الواقع – يحدّثنا، أن عُقَد التاريخ ومآسيه من الممكن تجاوزها، بالعقل المُنفتح والإرادة الحرّة الراغبة في التغيير والانتصار لشعوب هذه المنطقة.. وعبر القيادات الحرّة المُختارة أو المُنتخَبة من شعوبها... ويبدو أن هذا لم يتوفر حتى الآن لدى أصحاب (عقدة الدرعية) وتابعيهم وتابعى التابعين بغير إحسان إلى يومنا هذا.. لذلك كله سيظلّ (الداء ) في العلاقات المصرية السعودية..لا شفاء منه !! والله أعلم.