فيدل كاسترو: الجنوبي الأخير
كانت عبقرية كاسترو أنه أدرك منذ البداية طبيعة الصراع القائم في عالمنا. فمنذ البداية لم يكن كاسترو يطمح فقط لإسقاط نظام باتيستا. بل، كان يحلم بثورة تتجاوز كل أحلام أعظم ثوار أميركا اللاتينية، سيمون بوليفار وخوسيه مارتي، في توحيد الأمة الأميركية اللاتينية. كان يرى في الثورة الكوبية جزءا أساسيا من ثورات الجنوب على الإستعمار الغربي وكان يرى أن مصير أميركا اللاتينية مرتبط بمصير كل الجنوب.
فهذه الفكرة بدت مجنونة جداً حينها لأنها كانت تعني أكثر من مجرّد تحرير المستعبَدين، وأكثر حتى من استلامهم الحكم. كانت فكرة ماكاندال تبدو مجنونة جداً لأنها كانت تعني، بالحد الأدنى، الانقلاب على منظومة العلاقات الإجتماعية والأقتصادية في أربع قارات (من إفريقيا إلى أميركا اللاتينية ومن أوروبا إلى أميركا الشمالية) وتغيير مسار التاريخ الإنساني أجمع.
كانت الفكرة تبدو مجنونة لأنها، بقضائها على العبودية، كانت تعني، بكل بساطة، نسف الأسس الأهم التي قام عليها إقتصاد العالم حينها.
كانت فكرة الثورة التي أعلنها ماكاندال في جزيرة بعيدة كـ ”هايتي“ تعني ببساطة تغيير العالم. لهذا سيدخل ماكاندال التاريخ كمهندس لأعظم ثورة في التاريخ المعاصر على الإطلاق (كما سماه الأنثروبولوجي مارك ديفيس) وسيكون الزعيم الأول في سلسلة من قادة الثورة الأفذاذ وأحد أعظم "أنبياء الثورة" (كما سمّى مايكل أداس قادة بعض الثورات ضد الإستعمار) التي ستهزم أوروبا والولايات المتحدة مجتمعة وتؤسس أول جمهورية سوداء على الإطلاق وثاني دولة مستقلة في القسم الغربي من العالم، ثورة ستضع خارطة الطريق للحرية من الإستعمار والعبودية وستنسف الأسس التي قام عليها إقتصاد العالم. ثورة في جزيرة صغيرة بعيدة ستغير العالم.
استشهد ماكاندال قبل أن يرى حلمه يتحقق. لكن في مساء الثاني والعشرين من آب 1791 أعطى ”دوتي بوكمان،“ زعيم ثوار هايتي حينها، تعليماته الأخيرة لقادة الثورة الذين جاؤا للقائه ليلا في ”غابة التماسيح" حاملين المشاعل لتضيء لهم الطريق في ليلة يصفها المؤرخون بالعاصفة جداً. بعدها بثلاثة أيام فقط "أصبح القسم الشمالي من المدينة كله خراباً. وفي منطقة الكاب كان الأفق كله عبارة عن جدار هائل من النار، ومن هذا الجدار ظلت ترتفع بإستمرار كميات كبيرة من الدخان الأسود الكثيف حتى أن أهل المدينة لم يستطيعوا تمييز الليل من النهار لثلاثة أسابيع متواصلة فيما كان قش قصب السكر المحترق يتساقط كرقائق الثلج مغطياً المدينة والميناء ومهدداً بدمارهما كلياً" (اليعاقبة السود، ص: ٨٨). بعد إثني عشر عاماً من تلك الليلة العظيمة، إنتصر ثوار هايتي على أميركا وفرنسا وإسبانيا وإنجلترا وجيوشهم الجرارة وأموالهم الهائلة وأسلحتهم المتطورة. بعد إثني عشر عاما من تلك الليلة تغير العالم. كانت ثورة هايتي أعظم الملاحم الثورية على الإطلاق، كما كتب "سي ل ر جايمس" في "اليعاقبة السود". وليس ذلك فقط في كونها أول انتصار لثورة عبيد في التاريخ، ولا حتى في الاحتمالات الرهيبة التي واجهتها الثورة أو ضخامة المصالح العالمية الكبرى التي كان على الثوار التغلب عليها، بل أساساً في التحول الهائل الذي حدث على الثوار أنفسهم "من عبيد كانوا يرتجفون بالمئات خوفاً أمام رجل أبيض واحد إلى شعب ثائر يستطيع تنظيم نفسه ومحاربة وهزيمة أقوى الأمم الأوروبية حينها"، كما قال جايمس.قليلة هي الثورات التي تشبه ثورة هايتي في عظمتها وفي معناها وفي تبعاتها، وقليلون هم الثوار الذين يقودون ثورات تغير العالم، وتجعل من البطولة طريقة للعيش. لكن بعد قرن ونصف، سيقود فيديل كاسترو ومن جزيرة قريبة من هايتي ثورة مشابهة، وسيكون عليه وعلى رفاقه مواجهة ذات الإحتمالات الرهيبة والمصالح العالمية الهائلة التي واجهتها ثورة هايتي، وأيضا تغيير العالم مرة أخرى. لكن هذه المرة سيكون عليهم فعل ذلك على بعد تسعين ميلا فقط من حدود أعتى إمبراطورية عرفها التاريخ. وإذا كانت ثورة هايتي قد أسست للقضاء على العبودية، فإن ثورة كاسترو ستكون رأس الحربة الأهم في القضاء على وريث العبودية، نظام التمييز العنصري الكريه. وستكون أيضا رأس حربة تصفية الإستعمار الأوروبي في الجنوب ونضاله من أجل الإستقلال.
ربما يظن ناشط غربي أن توقيعه على بيان من بيانات رفض ومناهضة نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا ساهم حقا في سقوطه. لكن الحقيقة أن كاسترو ورفاقه وأهل كوبا هم من كسروا العمود الفقري للنظام الكريه حين حاربوه مباشرة ولسنوات ودون يأس في أنغولا وناميبيا وحتى في جنوب إفريقيا ذاتها واستنزفوه. ففي أنغولا لوحدها وخلال سنين قليلة ساهم أكثر من ثلاثمئة ألف كوبي (أساتذه وأطباء ومهندسين وجنود) وعلى دفعات في مقاومة الغزو الجنوب إفريقي الأبيض المدعوم أميركيا وحماية ثورة التحرر الوطني فيها مقدمين آلاف الشهداء الكوبيين. لكن، لو قال فيديل كاسترو لرفاقه الإثنين والثمانين الذين رافقوه على متن اليخت "غرانما" من ميناء توسبان في المكسيك وهم في طريقهم للإطاحة بنظام باتيستا في كوبا، إنهم سيقيمون أول نظام إشتراكي في القسم الغربي من العالم، وإنهم سيكونون السبب في إنهيار الإستعمار البرتغالي وإسقاطه بالضربة القاضية في غينيا – بيساو بمساعدتهم الحاسمة لأميلكار كابرال ورفاقه، وإنهم سيحاربون كذلك في الكونغو مع أنصار لومومبا، وإنهم سيدعمون حركة التحرر الوطني في أنغولا مع أوغسطينو نيتو، ثم إثيوبيا وناميبيا وجنوب إفريقيا، وإنهم سيدعمون كل حركات التحرر في أميركا الوسطى والجنوبية، وسيناصرون كل الحركات الثورية في العالم لما صدقوه. ولو قال لرفاقه ليلتها إنّ جزيرتهم الصغيرة ستواجه الإمبراطورية الأميركية وستصارعها في كل بؤر الصراع في العالم لظنوا أن جنونا قد مسّ عقله. ففي تلك الليلة العاصفة كانوا يركبون يختا صغيرا بائساً تبلغ حمولته القصوى ستين شخصاً فقط، فيما هم إثنان وثمانين. وكان عليهم فوق ذلك حمل صناديق الرصاص والسلاح الثقيلة ما اضطرهم لترك الطعام المخصص للرحلة خلفهم والإبحار دونه، كما روى تشي غيفارا. وحين وصلوا بصعوبة بالغة إلى شواطئ كوبا، بعد أن ضلوا طريقهم ورسوا في منطقة بعيدة عن الهدف الأصلي، اشتبكوا مع جيش باتيستا مباشرة ولم يبق منهم سوى خمسة عشر ثائراً. كانت مهمة فيديل ورفاقه في إسقاط نظام باتيستا في كوبا لوحدها تبدو مستحيلة، فكيف بتغيير العالم. لكن الثورة الكوبية انتصرت لأنها كانت تحمل في طيّاتها بذور تغيير العالم. انتصر كاسترو لأن ثورته كانت تحمل في ثناياها روح العصر. فمنذ البداية حملت الثورة الكوبية بذرة العالمثالية، الإستقلال، وتحرير دول الجنوب من الإستعمار (كان قائد ثورة غينيا –بيساو، الثائر والمفكر العبقري أميلكار كابرال، أحد الثوار الجنوبيين المفضلين عند كاسترو، وفي أنغولا دعم كاسترو الزعيم القومي الإفريقي والعالمثالثي وزعيم الحركة الشعبية لتحرير أنغولا اوغسطينو نيتو على حساب أنصار موسكو حينها). كانت عبقرية كاسترو أنه أدرك منذ البداية طبيعة الصراع القائم في عالمنا. فمنذ البداية لم يكن كاسترو يطمح فقط لإسقاط نظام باتيستا. بل، كان يحلم بثورة تتجاوز كل أحلام أعظم ثوار أميركا اللاتينية، سيمون بوليفار وخوسيه مارتي، في توحيد الأمة الأميركية اللاتينية. كان يرى في الثورة الكوبية جزءا أساسيا من ثورات الجنوب على الإستعمار الغربي وكان يرى أن مصير أميركا اللاتينية مرتبط بمصير كل الجنوب، فكان حليفا لعبدالناصر العربي وسيكوتوري الغيني ومانديلا الإفريقي. في "أحلامي لا تعرف حدود"، كتب الثائر الأممي ورفيق كاسترو، تشي غيفارا، أنه "من السهل الموت في سبيل الحرية. إنما من الصعب العيش حياة آلام ونضال دون يأس ودون تخاذل، دون بيع للنفس ودون إنحناء. فالحرية تتطلب أكثر من الموت. تتطلب أن يهبها الإنسان كل لحظاته وكل قواه". وهكذا عاش كاسترو. عاش حياة طويلة حافلة بالنضال. لم يتخاذل ولم يبع نفسه ولم ينحني. وهب كل حياته وكل قواه للحرية والثورة. عاش كاسترو في زمن كان الصراع فيه بين الجنوب والشمال، بين المستعمَر والمستعمِر، فكان أحد أبرز الرجال الاستثنائيين في عصر مليء بالرجال الاستثنائيين، وأحد أبرز الثوار في عصر مليء بالثوار. ورحل كاسترو بعد أن أفنى عمره يعمل من أجل حياة أفضل لشعبه ولكل شعوب الجنوب. وداعا أيهاً الجنوبي الأخير.