الاتفاق النووي...ذهب مع الريح؟

قلق هو روحاني، تماماً كما ظريف، لكن هناك من لا يشعر بالقلق نهائياً، بل هناك في طهران من يرى الخير في سقوط الاتفاق. هؤلاء يمشون على قاعدة "دعه ينزف ولا تحرمه الشهادة"، يعتقدون أن الخطأ الأكبر الذي قامت به حكومة بلادهم كان الوثوق بأميركا. واليوم تقدّم لهم هذه الأخيرة هدية على طبق من ماس، على عتبة انتخابات كانت حتى أسابيع ماضية محسومة النتيجة لصالح دورة ثانية لروحاني.

ظريف وكيري قاما بما عليهما لكن العالم لم يعد يخضع للقواعد التي تدرّس في الكليات
على متن طائرة إيرانية تقلّه في جولة آسيوية يطرق وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف مفكراً في مصير درة تاج إنجازاته، الاتفاق النووي. يعلم الرجل الذي وصفه يوماً وزير الخارجية الأميركي الأسبق وأبو الدبلوماسية الأميركية الحديثة هنري كسينجر بالخصم المحترم عندما أهدى إليه كتابه "الدبلوماسية"، أن نهاية حزينة لمذكرات "السيد الوزير" ستعني بطبيعة الحال بداية لمرحلة إيرانية جديدة تستبدل فيها الإبتسامات بالتهديدات، والتسويق الناعم بأصابع السبابة الموجهة إلى الأمام، يعلم تماماً أن لقاءات ماراثونية وقياسية مع نظيره الأميركي جون كيري، في حال إنهيار الاتفاق، ستبقى حاضرة فقط في كتب التاريخ التي ستحكي يوماً عن إتفاق كان يوماً وذهب أدراج الرياح.


يُطرق الوزير الإيراني مفكراً في آلاف ساعات الطيران التي قضاها بين عواصم المعمورة، يبحث عن خيط ضوء ينهي أزمة عالمية حول برنامج بلاده النووي، أزمة مفتعلة كما يصفها الصحفي الأميركي المخضرم غاريث بوتر في كتابه  ”Manufactured Crisis” (الأزمة المصطنعة) الذي يقول فيه إن إسرائيل وأميركا عملتا معاً على خلق هذه الأزمة وإنها تطورت لا بشكل مخطط، إنما بحسب متعرجات العلاقة الإسرائيلية الأميركية، تقاربها وتباعدها، وما يظهر من تحديات وفرص على طريق ضرب إيران والحد من تأثيرها.


هي لحظة فاصلة بالنسبة للوزير ظريف ومن خلفه الرئيس حسن روحاني، وللثاني أكثر من الأول، إذ إن إنجاز عهده الأول ومفتاح حلّ المشاكل كما وعد كان الاتفاق، وللمفارقة فهو افتتح ولايته بالتحضير له، وفي منتصفها جرى التوصل إليه، وقبل أشهر قليلة من الإنتخابات الرئاسية يقف أمام مفترق الطريق الأخطر، تصدّع الاتفاق. يحاول الرئيس الشيخ منع ذلك بالطرق الممكنة كافة، يحاول فتح قنوات خلفية وعلنية مع الأطراف الست الأخرى التي شاركت في إنهاء التحدي النووي، لذا فهو يرمي الكرة في ملعبها مجتمعة، فالاتفاق من وجهة نظره "حصيلة جهود سبعة بلدان، وهدفه تعزير الأمن العالمي، ولاينبغي السماح لبلد ما بإضعاف هذا الاتفاق" هكذا قال للمبعوث الروسي الذي زاره في طهران، بل هو سيحارب على جبهة الداخل أيضاً ليقنع من بيدهم الأمر أن خطوات أميركا ستعزلها عن مسار إعلامي ولن تكون سبباً في عزلة إيران مجدداً.


قلق هو روحاني، تماماً كما ظريف، لكن هناك من لا يشعر بالقلق نهائياً، بل هناك في طهران من يرى الخير في سقوط الاتفاق. هؤلاء يمشون على قاعدة "دعه ينزف ولا تحرمه الشهادة"، يعتقدون أن الخطأ الأكبر الذي قامت به حكومة بلادهم كان الوثوق بأميركا. أصوات هؤلاء كانت خافتة في الأيام الأولى بعد منتصف تموز/ يوليو 2015 تاريخ إتفاق فيينا. ثم ارتفع الصوت قليلاً واعتصموا أمام البرلمان ونظموا النشاطات المناوئة، فهم يعتقدون أن ما حصل يومها كان خيانة للمبادئ الثورية، واليوم تقدّم لهم أميركا هدية على طبق من ماس، على عتبة انتخابات كانت حتى أسابيع ماضية محسومة النتيجة لصالح دورة ثانية لروحاني.


المشكلة اليوم أن المرحلة الفاصلة بين رئيس ورئيس في واشنطن لا تشبه سابقاتها، إذ إن ما يفصل بين دونالد ترامب القادم إلى البيت الأبيض وباراك أوباما المغادر هو في الواقع زمن وزمن. زمن كانت فيه أميركا تقدّم نفسها كدولة حوار تريد نزع الألغام التي بنيت على مر الزمان بينها وبين خصومها، وزمن لا تعرف حقاً فيه أميركا ماذا تريد، وكيف، وأين، ولماذا! ولعل أميركا الثانية تغري كثيراً أصحاب الخط الأصولي في طهران الذين لا يريدون من أميركا سوى الشيطان الذي يرونه فيها، وكل ما عدا ذلك لا يمكن التعويل عليه، لأنه من وجهة النظر مجرد قناع يغطي الوجه الحقيقي.


ربما يعود ظريف بعد أشهر أستاذاً في الجامعة في طهران، وهو في الواقع أستاذ في الدبلوماسية كما عرفه الذين قابلوه وخبروه عن قرب. وربما يبقى على رأس الدبلوماسية الإيرانية لعهد جديد. لن يغير في أي درب يسلكه حقيقة أن ما أنجزه سيبقى محفوراً في تاريخ الدبلوماسية الإيرانية، بل لا يمكن إلا أن يدرّس في العلاقات الدولية والدبلوماسية وحلّ النزاعات. هو وجون كيري قاما بما عليهما، لكن العالم الذي يعيشان ونعيش كلّنا فيه لم يعد يخضع للقواعد التي تدرّس في الكليات.