تركيا إلى أين؟
فاز حزب العدالة والتنمية بإتقان أدوات اللعبة الانتخابية، كما بات سير اللعبة مألوفاً في العديد من الدول الغربية التي تبنّت النموذج الأميركي في التسويق، فشركات الاعلانات والتذويق والترويج تأخذ نصيباً وافراً في هندسة الحملة الانتخابية، بمقدار استثمار رجال المال والأعمال في حملة الحزب الأكثر حظوة في السلطة مقابل التعويل على تسهيل أعمالهم لقاء صوتهم الأعلى المرجِّح.
الرئيس التركي لم يخض حملته ببرنامج سياسي واضح
بعض الأخلاقيات موروثة من إرث سابق في تركيا حين كان التمثيل الشعبي
مسؤولية نبيلة، لا زالت تكبح أحياناً جموح بعض الأحزاب وشخصياتها
"الكارزمية"، من الذهاب إلى كسب الأصوات بطرق عنترية، ففي فرنسا التي
كانت الأكثر انسجاماً في حفظ المبادىء الجمهورية اتُهم نيكولا ساركوزي بخرق هذه
المبادىء حين استخدم التخويف من الإسلام او الإرهاب في حملته الرئاسية.
اضطر ساركوزي إلى
المواربة بخفَر، إذ أنّ المهارة في التنافس الانتخابي ينبغي أن تحفظ ماء الوجه في
احترام قيَم التمثيل الشعبي التي ترقى في المخيّلة الجمعية إلى المثُل العليا.
لكن حزب العدالة
والتنمية تجاوز ما بات معروفاً في السوق الانتخابية من عراضة التخويف من خوف
الفوضى أو الارهاب وغيره، حتى بلغ شأوه في هذا المضمار شأو قيادة ملهمة خيرها مطلق
مقابل شرّ منافسيه الكامل..
تفوّق حزب العدالة
والتنمية في محاربة منافسيه بقيَمهم التي أخذها استعارة للحملة الانتخابية. ظهر
بين القوميين أشدّ تعصباً من الحركة القومية إحياء لفتح القسطنطينية قبيل
الانتخابات بنحو أسبوع. وأخذ الرئيس من المناسبة هيبة العرق السلطاني أجداداً
وأحفاداً على خيط من الزمن حتى الأجدّ بينهم.
ظهر الرئيس في الأيام نفسها جمهورياً أتاتوركياً
إحياء لحدث جلل قبل اثنين وتسعين عاماً لا قبله من أمجاد عظام ولا بعده.
في اليد الأخرى أعطى
الرئيس عطاء منبسطاً على كُرد الاتراك، إذا رجح بهم العقل تحت رحمة القومية
التركية المنفتحة على رعاياها، وإذا لم يختالوا بقوميتهم الكردية تماهياً
بالارهاب على قول أردوغان.
.
غير أن فوز الحزب الباهر
هو منافسة من دون أفق بين حزب في السلطة لا يزال يطمح بأن تؤدي المقدمات التي راهن
عليها في سوريا والمنطقة إلى نتائج مغايرة، وبين أحزاب تقليدية تأمل انفتاح أفق
مقفل في الغرب. فالحركة القومية تمثّل اتجاهاً آفلاً يحفظ بقاؤه انفجار الهويات
الشوفينية والفاشية في سياق ردود أفعال عصبية على وحشية المنظومة المعولمة وردود
الافعال هذه قد تكون صاخبة في عدم الاستقرار، لكنها أدنى من الفعل في حل الأزمات.
أما حزب الشعب الجمهوري فهو يتناغم مع العدالة
والتنمية في معظم السياسات الاقتصادية ــ الاجتماعية وفي التبعية إلى حلف الاطلسي
لكنه يفترق في بعض السياسات الخارجية التي يراها الجمهوري "تدخلية في
الشرق المتخلف"، أملاً في اندماجها الأوروبي المقفل أمام تركيا.
حزب الشعوب الديمقراطية
"الذي يتماهى مع الإرهاب"، هو معضلة العدالة والتنمية في وعوده الانتخابية
"أنا أو الفوضى".
فمشكلة الكرد والاقليات
في تركيا هي أزمة أبعاد وتشابك إقليمي داخل تركيا، كما هي معظم الآزمات الاقتصادية
ــ الاجتماعية والسياسية التركية..
الرئيس التركي لم يخض
حملته ببرنامج سياسي واضح في حل هذه الازمات، إنما خاض حملة مبايعة وتفويض بقدرته
على اجتراح معجزات سابقة في تركيا، مقابل أحزاب ماضوية. في هذا الاطار قد يطلق
الفوز أيدي الحزب في خياراته السياسية، لكن إذا كانت هذه الخيارات لزيادة الشيء من
الشيء نفسه فلا غرو أن الفوز سرعان ما يرتد عليه بعد أخذه كل ما طلبه في سبيل وعود
افتراضية، والحال أن هذه الخيارات لم تعد فضفاضة قابلة لاحتمالات متعددة بعد
التدخل الروسي في سوريا ومنها إلى المنطقة. فباتت الخيارات التركية ضيّقة بين
ضفتين : فإما استدارة إلى جانب روسيا وإيران والنظام السوري في وقت مناسب يتسع إلى
توطين الحلول الاقليمية في دواخلها وخوارجها، وإما الاندفاع تحت جناح
"الانتصار المبجّل" (كما تزهو قيادات في الحزب) في مشاركة فُتات حلفاء
الاطلسي المتراجع في سوريا.
الخيارات الصعبة في
التراجع عن رهانات عبثية، يتخذها غالباً رجال دولة في قمّة حصاد التأييد الشعبي.
لكن لو كانت هذه الحكمة قاعدة عامة لما انهارت دول ولا تلاشى زعيم كان في زمانه
سلطان..