لماذا نُـقتل؟!

إنه السؤال الذي يُطرح يومياً في غير بلد عربي مبتلى باقتتال داخلي، هو لسان حال من يدفن ولداً، وتودع زوجاً، وتندب أخاً. لماذا نُقتل؟!

اعتذر بلير للمرة الأولى عن حرب العراق قائلاً إن هناك بعضاً من "عناصر الصحة" من أنها تسببت في ظهور تنظيم داعش.
 نسأل السؤال وإن كان القتل اليوم في الشكل بيني، أبناء البلاد يقتلون بعضهم بعضاً، قتل ليس كمثله قتل، إخوة بالمعنى الحرفي للكلمة يوجّهون إلى صدور بعضهم البنادق المورّدة عبر الحدود إلى حيث الدماء رخيصة رخص أظرفة طلقات الرصاص.

لنعد قليلاً في التاريخ، إلى العام 1968، في لندن، أمام السفارة الأميركية في غروزنفر سكاوير، حينها نزل حزب العمال بقدّه وقديده يتظاهر ضد حرب فييتنام وتحولت شوارع العاصمة البريطانية إلى ساحة معركة حقيقية، حينها كان الفتى أنثوني تشارلز بلير في الخامسة عشر من عمره، طالباً في مدرسة فيتس الخاصة في أدنبرة في أسكتلندا. كانت الأفكار تأخذ الطالب المشاغب بحسب أساتذته من مكان إلى آخر، لكنه كان يرغب دائما في أن يكون محل جذب الأنظار. حينها كان توني بلير بحسب ما يقول في سيرته الذاتية "الرحلة" قد بدأ في تكوين اتجاه فكري لكن من دون حسم، لكنه قطعاً كان يتجه نحو اليسار. لو أن بلير في تلك الأيام كان في لندن لكان على الأرجح شارك في التظاهرة الكبرى ضد حرب فييتنام.

في العام 1983 أصبح بلير نائباً عن حزب العمال في سادغفيلد شمالي إنكلترا، يقول الرجل عن نفسه في مذكراته انه لو وقف في العام 1994 لينظر إلى أفكاره في تلك الفترة لما كان ليتحملها. العام 1994 هو العام الذي أصبح فيه زعيماً لحزب العمال الذي أعاده إلى داونن ستريت مقر رئاسة الوزراء البريطانية بعد عقد ونصف من الغياب.

من هناك وبالتعاون مع الأميركيين خطط أصغر رؤساء الوزراء في بريطانيا للحرب على أفغانستان ومن ثم على العراق، ولنظرية أسلحة الدمار الشامل، ولأخطر عملية خداع في القرن الحديث. شنّ جورج بوش الإبن رئيس الولايات المتحدة الاميركية حربه على العراق ومعه بلير الذي استشرس في الدفاع عن القرار باعتباره حتمياً للسلام العالمي. انفجر العراق وانفجرت معه براكين الصراع الطائفي الذي صدّر قيحاً عابراً للحدود تحوّل في يومنا هذا إلى مصيبة القرن، مصيبة وصفت في بريطانيا بفييتنام بلير.   

في 25 تشرين أول أوكتوبر 2015، اعتذر بلير للمرة الأولى وعلناً عن تلك الحرب، قائلاً إن هناك بعضاً من "عناصر الصحة" من أنها تسببت في ظهور تنظيم داعش. بلير اعتذر عن المعلومات الإستخبارية الخاطئة وعن الأخطاء في التخطيط، وعن الأخطاء في فهم ما سيحدث في البلاد بعد إطاحة النظام. اعتذر بلير، أريق بعض من ماء وجهه، لكن ماذا عن الدماء التي تُراق بسبب "أخطائه".

لم تمض عشرة أيام حتى أُعلن عن الكتاب الجديد للرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب، صاحب عاصفة الصحراء التي شهدت دخول الأميركيين الأول، عسكرياً، إلى الشرق الأوسط. بالنسبة الى بوش الأب، كان ولده بوش الثاني، رئيس الولايات المتحدة الأميركية لدورتين رئاسيتين من 2001 وحتى 2009، مغرراً به.هكذا قرر الرئيس الأسبق لأكبر دولة في العالم أن نجله الرئيس أيضاً كان ضحية أصدقاء السوء، "المتشدد" ديك تشيني و"المتعجرف" دونالد رامسفيلد. هذا هو حجم المأساة في بيت آل بوش، وأقصى ما يترتّب على المأساة خسارة صديقين عزيزين على العائلة عملا مع الأب وورثهما الإبن، بينما آلاف العراقيين والسوريين والليبيين والمصريين وغيرهم يخسرون أصدقاءهم، وأقرباءهم، وأولادهم، وأنفسهم، وبلادهم.

لعقود قتلنا لأن وعداً أصدره وزير خارجية بريطانيا ( حينذاك رئيس وزراء سابق)، أرثر بلفور، لليهود بإعطائهم وطناً قومياً في فلسطين، على حساب شعب لم يجد أحداً من ولاة الأمر الواقع في تلك الفترة الزمنية يفقه القراءة، ولم يجد لاحقاً من يعينه على محتلين أصرّوا على اجتثاثه من أرضه وتحويل أبنائه إلى مشرّدين في مشارق الأرض ومغاربها. لعقود ظلت جريمة بلفور تغذّي حلماً توسعياً يتمدّد طولاً وعرضاً بينما الفلسطينيون في خيامهم، يحملون مفاتيح بيوتهم، يلفون صكوك ملكياتهم، بانتظار الفرج. لكن بلفور بخلاف بوش المبرّر، وبلير المعتذر، لم يجد غضاضة في ما أتى به، وهو الذي سمي على اسمه "السلوك البلفوري" الذي يقوم على الفوقيّة وعزل الذات عن كل ما هو محيط، كما يقول هارولد بغبي في كتابه "مرايا داونن ستريت."

لماذا نُقتل؟! نُقتل لا بسبب هؤلاء الثلاثة المذكورين أعلاه فقط، بل لأننا شعوب لم تقرأ الحادثة الأولى رغم العقود الطويلة عليها، فجاءت الحادثة الثانية وكأن شيئاً لم يكن، فهلّل البعض لها وساهم البعض الآخر في نجاحها، وبعض ثالث قدّم بلاده مقراً ومستقراً لأساطيل العدوان، بينما قلة قليلة فقط كانت تبّح صوتها صراخاً وتحذّر من القادم الدامي المتلبس رداءات سرابية. نحن نُقتل لأن فينا من لا يعرف من التاريخ سوى الأحاديث والروايات، المشكوك بأصلها وسندها ومقصدها، تحضّ على القتل والتفرقة والتكفير، نحن نُقتل لأن هناك من لا يأبه لأمة، ولا لعدو يتربّص بها، ولا لأجيال فيها تكبر من دون حلم.

أي أمة هذه التي تكبر بلا حلم؟!