شوكة الميادين
محاولة إقصاء "الميادين"
من الفضاء الإعلامي، هي في سياق حرب يضع فيها التحالف السعودي السيف على الفكر والثقافة
في موضع الندى. فالتحالف يتخذ البتْر منهجاً آحادياً في احترابه مع قوى متنوّعة في
حقله الإقليمي التي يختلف معها أو يتباين. وبلغ به افتقاد الأدوات والوسائل في كل مقام
مقال، قلّة حصافة يسوقها هوجة لا تتمايز فيها الكلمة عن الرصاصة ولا ترتقي الثقافة
عن الشتائم والغرائز البدائية. في هذا المنحى ما يخاله التحالف السعودي بعُصابه البرّي
تهديداً وجودياً، يُشعله رأي مخالف في حوار "الميادين"، مهما حابى السعودية
متحاور آخر تضعه هيئات الرقابة السعودية في أبواب الفرض عين لا جميلاً ولا شكورا.
إنما "الميادين" في
فطرتها السويّة كالضدّ يُظهر حسنَه الضدُّ. فهي تخالف التحالف السعودي في ضفة سياسية
مقابل ضفة، وفي مقاربة عقلانية بديلة لأخرى. لكنها تتقن أدوات الخطاب، بل تتلذذ أحياناً
في قلم يكسر سيف التحريض الطائفي والحضّ على القتل. ولا ريب أن "الميادين"
إلى جانب أترابها، جرعة "أوكسجين" نظيف في فضاء هواءٍ إعلامي محموم بسموم
التلوّث. وربما لم يتسنَّ لها الوقت بعد لإرساء ما تتطلّع إليه من مساهمة في الحقل
الفكري والثقافي العربي. لكنها مدرسة ومنهج كما يشعر بها بسطاء العرب وأكثر الفئات
الثقافية اتقاداً في حسّها النقدي.
"الميادين" تتخذ مما يسمى "السلطة الرابعة"
مسؤولية أدبية وأخلاقية عليا. فهي في هذا المضمار أقرب إلى ما يسميه "ريجيس دوبريه"
سلطة الثقافة، في تأسيسه "علم الميديا" عام 1979. وهو علم بات طريقة ومذهباً جامعياً يولي سلطة الثقافة التفوّق على ذئبية الخلافات
البينية في البحث عن مشتركات أرقى وأعلى. ولعل "الميادين" قناة بين ينابيع
هذه الفلسفة في مواجهتها الاستلاب للغزو الأطلسي، مدخلاً للتضامن الإقليمي. فالتوجّه
الإقليمي المشترك للحدّ من مخاطر الغزو الأكثر ثقلاً، يقلّص المخاوف المتبادلة من غلبة
بلد في جوار بلد نسج عروتهما تاريخ مديد من التلاقح وتبادل التأثير. وما الخلافات والاختلافات
المترامية في خيوط هذا النسيج، سوى لون في أحوال تشييد العمران، لا مندوحة عنه في حضارات
الأمم والشعوب. ولا غرو أن تأجيج هذه الخلافات احتراباً مذهبياً وعصبية عرقية، هو فعل
استلاب خضوعاً للغزو الثقافي على ما في إناء المستَلَبين ينضح.
على النقيض من ثقافة الخضوع،
تضيء "الميادين" شمعة على الجسر الذي تعبره المقاومة في لبنان وفلسطين لمواجهة
قاعدة الاستعمار القديم ــ المتجدد في فلسطين المحتلة. والحال، تضيء شمعة أخرى على
جسر تطلعات وطموحات الشعب العربي للحرية والتحرر من العبودية الجديدة التي تنتقل برقيق
مستعمراتها إلى استخدامهم مستهلكين لسلعها وأفكارها. فـ"الميادين" على تماسٍ
لصيق مع الدواخل العربية في الطموح إلى خيار أخر بين العبودية الجديدة وبين الهمجية
القاتلة بسيف الاسترقاق. لكن "الميادين" تضيء أكثر شموعها على جسر العبور
من اليأس الذي يغذّيه المتعالون على "التخلّف" في البحث عن سؤال لجواب مطروق
ومكرور. في هذا السياق تعتمد "الميادين" حوار الاختلاف والمقاربات، بحثاً
عن إنتاج أفكار ناتجة عن الحوار في تجاوز الضديّة الثنائية، وفي تخطّي طرفين أشبه بديكين
ينفث كل منهما غلاّ على غلّ غريمه.
التزام "الميادين"
في أخلاقيات المهنة احترام للذات في احترام الإنسان مشاهداً متفاعلاَ، ليس مستهلكاً
معطّل التفكير في تلقيه ما يُلقى عليه ويُرمى من أمورٍ على هوانها. هذه الأخلاقيات
المهنية الرزينة هي مسؤولية رجال الرجال كما يقول "بوانو دانيال" في قاموس
علوم المعلومات والاتصالات ــ 1993، لا يفلحون في حقلهم إذا لم يتثقفوا بمعارف الشعوب
وفي الانفتاح على ثقافات مختلفة في عالم الجنوب الراسخ في قدمه. فتداول هذه المعارف،
كما تسعى "الميادين" في الانفتاح على أميركا اللاتينية والجنوب، هي ثروة
تتعاظم في تجزأتها وتوزيعها. وهو أفق يتسع للنقد والاختلاف، إذ يشرب كل من ورد الماء
صفواً ولا يشرب غيره كدراً وطينا.