تركيا: من صفر مشاكل إلى صفر أصدقاء
تركيا تودع نظرية "صفر مشاكل" لفترة طويلة على أقل تقدير، وتدخل في مرحلة "صفر أصدقاء"، هذا من دون أن نتحدث أو نعالج العلاقات المتأزمة مع روسيا بعد إسقاط الطائرة الحربية الروسية على الحدود مع سوريا، لا سيما وأن روسيا دولة جوار بالنسبة لتركيا، وهي ممر إلزامي للسفن الروسية العابرة باتجاه المياه الدافئة.
في تلك المرحلة كان الاتراك يعملون بحسب قواعد سلوك كتاب وزير الخارجية حينها أحمد داود أوغلو "العمق الإستراتيجي". رئيس الحكومة التركية الحالي نظـّر في كتابه لما عرف بسياسة "صفر مشاكل" التي حولت تركيا خلال سنوات العقد الأول من القرن الحالي، إلى دولة صديقة للجميع في منطقة تضيق فيها مساحة الصداقات. حتى في عز الأزمات الكبرى، كانت تركيا تجد لنفسها مستقراً بعيداً من اللهيب. بقيت كذلك حتى اشتعل اللهيب في سوريا، ومعه بدأت أوراق كتاب العمق الإستراتيجي، دستور العلاقات الخارجية لحكومات "العدالة والتنمية"، تشتعل، وفي غضون سنوات قليلة، أقل من عدد أصابع اليد، أضحت وريثة الإمبراطورية العثمانية محل خلاف وعلى خلاف مع معظم دول المنطقة.
أخذت تركيا موقفاً حازماً من الاحداث في سوريا، هي سعت في بداية الأزمة لفتح كوة في الجدار والوصول إلى تسوية ما، فإلتقى أوغلو نفسه المسؤولين السوريين مراراً بما في ذلك الرئيس السوري بشار الأسد. بعد أشهر قليلة قررت تركيا أن تأخذ مساراً مختلفاً بناء على أن ما كانت تطرحه على دمشق لم يكن واقعاً محل قبول من وجهة النظر السورية. أخذت أنقرة موقفا جديدا مطالبة برحيل الأسد، وبشكل ممنهج بدأ الضغط السياسي يتحول إلى ضغط عسكري عبر دعم كتائب المسلحين المعارضين على الحدود مع سوريا، وفتح الحدود، بحسب الإتهامات، لمن يرغبون بالقتال في سوريا.
تطور الدور التركي في هذا الاطار بشكل أكبر، وبينما العيون على سوريا، عُزل الرئيس المصري السابق محمد مرسي، وسجن هو وكل قادة الإخوان المسلمين في مصر، إلى جانب آلاف المعتقلين من الإتجاه السياسي ذاته بعد فض إعتصام في ميدان رابعة العدوية أدى هو أيضاً إلى سقوط مئات الضحايا. كان الموقف التركي واضحاً جلياً برفض إسقاط النظام في الشارع، وبالمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين وإعادة الرئيس المخلوع إلى الحكم. تضعضعت العلاقات المصرية - التركية وفي غضون أسابيع أخرى كانت أنقرة والقاهرة في حال تراشق إعلامي سياسي لا يزال مستمراً وإن بوتيرة أخف حتى اليوم.
تبقى مصر دولة جوار بعيدة، جوار بحري بحكم الإشتراك في المياه على البحر الأبيض المتوسط، لذا فإن أهمية العلاقة معها لا تضاهي العلاقة التركية مع العراق وإيران، فكلاهما بلدان تاريخيان في علاقتهما مع تركيا، وكلاهما مهم كممر للبضائع التركية إلى المحيط الإسلامي الأوسع، بل إن داود أوغلو يقول في كتابه "العمق الإستراتيجي" عن العلاقة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية "إن وجود إيران في موقع إتصال بين غرب آسيا والقوقاز وآسيا الوسطى، يجعل من الضروري على تركيا أخذ العامل الإيراني في الاعتبار في سياستها المعنية بهذه المناطق"، ويضيف أن "العمق التاريخي للعلاقات الإيرانية - التركية يجب ألا يسمح بتقييم هذه العلاقات بوصفها إمتداداً لطرف ثالث*".
اليوم تركيا في العراق، وهي في نظر الحكومة العراقية دولة محتلة، ومتهمة من قبل دول المنطقة بأنها تساهم من حيث تدري أو لا تدري في دعم الإرهاب في المنطقة، وفي الوقت ذاته تقف هي وإيران على خط براكين خطير، قد يشهد انفجارات غير محسوبة في أي وقت، بسبب تدهور العلاقات الثنائية بين البلدين نظراً لعوامل خارجية ثالثة لا لتأثير أي من الطرفين على داخل الآخر. تركيا عبر رئيسها رجب طيب أردوغان ترمي على الرئيس الإيراني حسن روحاني، والأخير يرد عبر متحدثه، وأردوغان قبل أشهر قليلة ومن جامعة مرمرة يتخطى الخطوط الإيرانية الحمراء ويضرب على المرشد الأعلى مباشرة، بسبب سوريا، لكنه في نهاية المطاف يضرب عليه بغض النظر عن الأسباب.
هكذا يمكن القول إن تركيا ودعت نظرية "صفر مشاكل" لفترة طويلة على أقل تقدير، ودخلت في مرحلة "صفر أصدقاء"، هذا من دون أن نتحدث أو نعالج العلاقات المتأزمة مع روسيا بعد إسقاط الطائرة الحربية الروسية على الحدود مع سوريا، لا سيما وأن روسيا دولة جوار بالنسبة لتركيا، وهي ممر إلزامي للسفن الروسية العابرة باتجاه المياه الدافئة.
*كتاب العمق الإستراتيجي تأليف أحمد داود أوغلو ـ صفحة 470