للجنرال عون من يكاتبه
أهمية الرئيس عون تكمن في شخصه وفي تيار واسع حوله أطلق أكبر زلزال في تاريخ المارونية السياسية، التي استعادت حضورها الوطني، ووضعت نفسها مع لبنان في قلب الشرق العربي.
بعيداً من التأصيلات التاريخيّة وإشكالاتها الخاصّة بالموارنة، هل يعود هؤلاء إلى "المردة" في القرن السّابع أو إلى مفردة سريانية أو إلى معبد قرب نهر العاصي؟ بعيداً من تعالقاتها الكنسية مع المجمعات المسكونية وصراعاتها، ومع الفاتيكان نفسه والتسوية معه من موقع طقسي مستقل، ولدت المارونية السياسية على مراحل، من مناخات طريق الحرير ومصانعه، إلى ما يعرف بالحرب الأهلية منتصف القرن التاسع عشر، بين أمراء الإقطاع المتمرسين بالمناورة مع الأستانة والإنجليز والفرنسيين وبين الفلاحين، وخصوصاً الموارنة، الّذين قدم كثير منهم من سوريا إلى كسروان والمتن وقاديشا، وتعايشوا مع موجة شيعيّة هاربة من الحكم الأيّوبي، وتكاثروا في السّنوات التي ازدهرت فيها زراعة التوت وصناعه الحرير، وحازوا اهتمام باريس بسبب هذه الصناعة وأهميّتها لمدينة ليون.
من المعروف كذلك أنَّ مناخات المتصرفية الأولى أسّست لمناخات لبنان الكبير بعد سيطرة الاستعمار الفرنسي على المنطقة. ومن اللافت للانتباه أنَّ جميع الذين شغلوا متصرفية الجبل كانوا من غير اللبنانيين: اثنان من الأرمن، بينهما أوّل متصرّف، واثنان من حلب، وشيعي غير لبناني، وإيطالي، وألباني، وبولندي.
وسيلحظ اثنان من مفكّري القومية اللبنانية، وهما ميشال شيحا، من أصول كلدانيّة عراقيّة، وكمال يوسف الحاج الّذي اغتيل في مسقط رأسه في العام 1976، أنَّ أمن هذه القومية يتطلّب الاستقلال التام عن القومية العربية والسورية على حدّ سواء، وعن الحركة الصهيونية التي اعتبراها الخطر الأكبر على هذه القومية.
في هذه الأجواء، راحت محافل فرنسية وبريطانية وصهيونية تهتم بالمارونية السياسية، في محاولة لإلحاقها بالظاهرة الصهيونية، كعنوانين من عناوين الاشتباك السياسي مع القومية العربية والسورية في لبنان والمنطقة، وخصوصاً بعد ما عُرف بالميثاق الوطني 43 الَّذي وقعه رياض الصلح (الصيداوي) وبشارة خليل الخوري (ليس "الأخطل الصغير" صاحب قصيدة "جفنه علم الغزل").
وثمة ما يشير إلى أنَّ هذا الاتفاق جرى برعاية ممثلين، ليس للبرجوازية الشامية السنية فحسب (شكري القوتلي وجميل مردم)، بل برعاية القاهرة أيضاً (مصطفى النحاس حليف الإنجليز آنذاك).
هكذا، جرى التركيز على أصوات في البطركية والكشافة المارونية التي شكَّلت خلفية معروفة لتأسيس حزب "الكتائب" وانخراطه في الانتخابات والحياة السياسية (قد لا يعرف البعض أنَّ الجميّل عاش في مصر قبل ذلك)، إضافةً إلى ظواهر أخرى، مثل الشمعونية السياسية التي ارتبطت بعلاقات وثيقة مع الإنجليز والأميركيين وأوساطهم العربية وانخرطت في حروبها ضد الناصرية في العام 1958 .
وفيما بدأت هذه الظاهرة إرهاصات لتشكيل برجوازية كبيرة عبر الدولة، كانت الطبقة الوسطى المارونية وأبناء الجرود يتمحورون حول خطاب كياني لا يشبه خطاب شيحا وكمال الحاج في ما يخصّ الخطر الصهيوني، ثم أتت اللحظة المناسبة لتأخذ الكتلة المسلّحة من هذه الطبقة زمام المبادرة باسم المارونية السياسية، بعد فشل الدولة وتعبيراتها الشمعونية، وكذلك بديلاً من الخيار الذي أسّسته الشهابية العسكرية وظلالها السياسية. ساعدها في ذلك عجز الخيارات السابقة، الشمعونية والشهابية، في مواجهة صعود القوى الوطنية واليسارية والقومية، العربية الناصرية تحديداً، والقومية السورية، بعد مؤتمر ملكارت أواخر ستينيات القرن الماضي.
وتسارعت الأحداث بين الحرب الأهلية وإسقاط اتفاق 17 أيار مع العدو الصهيوني وحرب الإلغاء، وغادر الجناح العسكري للكتلة الكتائبية مواقعه السياسية مستقلاً في حزب خاص باسم "القوات اللبنانية".
اللافت للانتباه أنَّ حزب "الكتائب" وذراعه العسكرية السابقة، "القوات"، وافقا على أخطر اتفاق بالنسبة إلى المارونية السياسية، وهو اتفاق "الطائف" في العام 1989، الذي وسّع صلاحيات الحكومة، بما فيها الإشراف على الجيش، على حساب الرئاسة المارونية، تاركين فراغاً كبيراً تعزّز قبل ذلك باتفاق أيّار المذكور، الذي خالف المرجعية النظرية للكيانية اللبنانية ممثلةً بشيحا والحاج.
في هذه اللحظة، كان ميشال عون، قائد معركة سوق الغرب ضد الحزب التقدمي الاشتراكي وحلفائه من الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية، يواصل، ومن موقع عسكري متقدم في قيادة الجيش، حرباً أخرى قرب نهر الكلب وحاجز البربارة، المنطقة المحرّمة لدى مقاتلي الجرود من القوات اللبنانية، وكان يجمع بذلك أوراقه التالية لمواجهه اتفاق "الطائف"، وكان وحيداً تماماً في قلب المارونية السياسية التي غطَّت الاتفاق من مواقعها المختلفة على تناقضاتها.
ذلك الأمر وفّر له خلفية كافية لتصدّر هذه المارونية والقتال حتى آخر رمق، قبل أن يخسر تلك الجولة ويغادر إلى حين. وقد كسب جمهوراً واسعاً من الموارنة ومثقّفيهم ونخبتهم، كما اكتسب عداء أكبر من مناصري "الطائف"، فقد أظهرت تصريحاته طيلة سنوات المنفى قدراً عالياً من الذكاء السياسي الذي ظل موضع استهداف حتى اليوم: إما احترام صيغة الديمقراطية التوافقية الغريبة التي شكلّت لبنان، من المتصرفية إلى لبنان الكبير إلى تفاهم الصلح - الخوري بعيد الحرب الثانية، وإما ديمقراطية كاملة بقانون نسبي.
وفي غمرة تطوّرات إقليمية ودولية معروفة، عاد الجنرال عون إلى لبنان، ودخل في ما يشبه التجريب السياسي، من مشاركة تياره في قرنة شهوان 2001، إلى تجمّع 14 آذار، إلى الاتفاق التاريخي مع رجل المقاومة السيد حسن نصر الله، الذي تشكّل أيضاً في محطات متنوّعة، من النجف إلى جانب السيد عباس الموسوي، إلى حرب إخوة أخرى في إقليم التفاح، إلى تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يقهر في تموز/يوليو 2006، وتحويل "الميركافا"، "فخر الصناعة الحربية الصهيونية"، إلى خردة في وادي حجير؛ وادي المؤتمر الكبير في العام 1920 دعماً للمؤتمر السوري.
ما شهده ذلك الاتفاق بين الرجلين الصاعدين، لم يكن حدثاً عادياً، فها هو الجنرال يخلط الأوراق على نحو استراتيجي غير مسبوق، ويعيد إنتاج المارونية السياسية على نحو مخالف تماماً، ويذكّر الكثيرين من الموارنة خصوصاً بمرجعيات مختلفة للكيانية اللبنانية، هي مرجعيات شيحا والحاج التي أكّدت أن قوة لبنان في قوته وردعه للخطر الصهيوني، وليست في ضعفه أو حياده الأخرس.
صحيح أنّ تيار "المردة" بنكهته الوطنية العروبية سبقه ودفع ثمن ذلك باغتيال خسيس لقائده طوني فرنجية، وصحيح أنَّ الرئيس الأسبق إميل لحود قدّم نموذجاً استثنائياً للرئيس العربي الشجاع، سواء بدعمه للمقاومة أو بإصراره على إضافة بند إلى بيان قمة بيروت العربية 2002، يؤكد حق العودة، إلا أنَّ أهمية الجنرال عون تكمن في شخصه وفي تيار واسع حوله أطلق أكبر زلزال في تاريخ المارونية السياسية، التي استعادت حضورها الوطني، ووضعت نفسها مع لبنان في قلب الشرق العربي، فاستحقّت مع الجنرال الحقد المسعور للمثلث الأسود، الأطلسي - الصهيوني - الرجعي، وأدواته من قوى الثورة المضادة والملوّنة.
إلى ذلك، لم ينتبه الجنرال، كما العديد من أطراف المعسكر الوطني المقاوم، إلى الخطاب الاجتماعيّ الذي كان، وما يزال، لدى قوى عديدة خطاباً ثانوياً من بنات أفكار الماركسيّة ومقولات الصّراع الطبقي، رغم أن المفكّر الشهيد مهدي عامل ربط مبكراً بين الخطاب الطائفي والتبعية والكولونيالية الجديدة، كتعبير اجتماعي عن الخطر الخارجي.
والحقّ أنَّ بعض أوساط اليسار اللبناني غادر خطاب مهدي عامل أيضاً إلى ما يسمى اليسار الاجتماعي وعالم التمويل الأجنبي، وانخرط في تظاهرات ساخطة تحت راية خطاب لا يشبه أبداً خطاب اليسار الراديكالي وأفكار مهدي عامل.
هكذا، وحيث فشلت كلّ حملات الأراجيف والتجديف ومنابرها وفضائياتها ومرتزقتها في أن تنال من الخطاب السياسي للجنرال، نجحت في "كعب أخيل"، الخاصرة الاجتماعية الرخوة، بتوظيف الاحتقانات الطبقية المشروعة وإزاحة مياهها إلى طاحونة مشاريع وأجندة مشبوهة تعلوها قبضة "الأوتبور" التي تلوّث قلب بيروت.
ليس لأصوات الثورات الملوّنة أن تبحث عن عون في جنرال فارغاس يوسا في رواية "وليمة التيس"، ذلك أن يوسا الذي أحبوه منذ أن صار شبيهاً لهم ومعادياً لكوبا وغيفارا وشافيز، لم يذكرهم أبداً بالخير. ومن قرأ منهم رواياته، يذكر جيداً شخصية موسيس ليفي اليساري، الذي انقلب ليبرالياً وناشطاً مدنياً وصوتاً عالياً ضد الفساد ومناصراً للمرأة، فيما كان يستبدل صديقاته كما يستبدل أحذيته. وفي رصيده الكثير ما يكفي سكّان قريته الأصلية من الخبز.
أيها الجنرال عون، ثمة من يكاتبك حتماً، فلا تقفل البريد وتنشغل بصراع الديوك وعرّافات الغجر.