لماذا ورد البابا بولس الثاني والبطريرك عريضة في خطاب الراعي؟
في حزيران/يونيو 1947، تبادل أنطون عريضة ودافيد بن غوريون رسائل أكّدت الاحترام المتبادل على المستويين الشخصي والعام.
هل نحن إزاء بولندا جديدة في لبنان تؤدي دور التفجير السياسي في كلّ المنطقة، كما فعل البابا البولندي بولس الثاني بالتنسيق مع الأميركيين، لإطلاق ثورة ملونة ضد المعسكر الاشتراكي؟ وهل نحن إزاء مناخات تستعيد اتفاق "17 أيار" باسم الحياد، وتوفر الغطاء البطريركي للذراع المسلّحة المحتملة، ممثلة بالقوات اللبنانية بقيادة جعجع؟
وهل صحيح أنَّ الحياد ينسجم مع جوهر الكيان اللبناني أو أنه يتناقض معه، وفق مهندسي الكيانية اللبنانية ميشال شيحا وكمال الحاج (إما لبنان وإما "إسرائيل")؟
في ضوء ما سبق، ما هو السرّ في تركيز البطريرك اللبناني على شخصيتين في خطابه الأخير، وهما البطريرك أنطون عريضة والبابا يوحنا بولس الثاني؟ فماذا عنهما وعن استعادتهما في خدمة السيناريوهات الأميركية المتوقعة للمنطقة؟
1- البطريرك أنطون عريضة
انسحب عريضة من العلاقات السرية مع الوكالة اليهودية بعد افتضاح أمره. وقد دشّن هذه العلاقات في العام 1933، وكرَّسها في اتفاقية الثلاثين من أيار/مايو 1946، وذلك بحسب عدد من المؤرخين الإسرائيليين، مثل إلياهو إيلات وإلياهو ساسون وبني مورس في كتابه "الطائفيون العرب والحركة الصهيونية"، والذي ينتسب إلى ما يعرف بـ"المؤرخين الجدد في إسرائيل".
اجتمع كلّ من ياكوف شيموني وإلياهو ساسون وجوزف عوض في القدس، ونجحوا في إنجاز اتفاقية رسمية في 30 أيار/مايو 1946. هذه المعاهدة التي أضفت أخيراً الصفة الرسمية على العلاقة الطويلة بين الوكالة والبطريرك مثّلت قمة التعاون، ووقَّعها كل من بيرنارد جوزف وجوزف عوض نيابة عن كل من حاييم وايزمن وأنطون عريضة على التوالي.
وبصورة تبادليّة، اعترفت الاتفاقيّة بالمطالب المتمثّلة بـ"الاستقلال في فلسطين" من جهة، والطابع المسيحي المستقلّ للبنان من جهة ثانية. أما التطبيق الفعال لبنود المعاهدة، فقد علّق على فوز الصهاينة بكيان "الدولة" وقيام الكنيسة فعلاً بدور في السّلطة السياسيّة في لبنان.
في حزيران/يونيو 1947، تبادل أنطون عريضة ودافيد بن غوريون رسائل أكّدت الاحترام المتبادل على المستويين الشخصي والعام. وقد شكر دافيد بن غوريون البطريرك على جهوده الرامية إلى "الحفاظ على العلاقات الودية المتبادلة"، وأكّد أنّ "الوكالة عازمة على التّعاون (التعامل) مع الطائفة المارونية العظيمة بروح الاتفاقية المبرمة (بينهما)".
أما المحاولة الأكثر تنسيقاً، فقد كانت تلك التي بذلها أفرهام لوتسكي، أحد كوادر المكتب الذي اتخذ من عمله الصحافي غطاءً له. في تموز/يوليو 1947، قام ولتسكي بزيارة عريضة، وأمضى معه ومع مساعديه الرئيسيين عدة ساعات، والسؤال الأول الذي طرحه على البطريرك كان منصبّاً على خطط الأخير الخاصة بـ"لبنان المسيحي وتطبيق المعاهدة المبرمة" بينهما، فردَّ عريضة قائلاً إنه كان سيقوم شخصياً بمعالجة الأمرين.
2- البابا يوحنا بولس الثاني
تزامن اختياره أول بابا من بولندا مع انفجار الأزمة البولندية وإطلاق الأميركيين برنامجاً عالمياً ضد الاشتراكية والاتحاد السوفياتي، شكَّلت بولندا الكاثوليكية رأس الحربة فيه. وبسبب ذلك، ردَّت بعض الأوساط محاولات القتل المتسلسلة التي تعرّض لها البابا المذكور إلى دوائر اشتراكية في موسكو وغيرها (محاولة 1981 خلال زيارته للبرتغال على يد التركي محمد علي آغا، ومحاولة 1982 على يد كاهن مسيحي، ومحاولة 1995 خلال زيارته للفيليبين، بل إنَّ سلسلة الأمراض التي أصابته وأدت إلى وفاته، رغم اهتماماته الرياضية، اعتبرت جزءاً من هذه المحاولات).
عُرف البابا يوحنا بولس الثاني بعلاقته مع منظَّمة "أوبس داي" الكاثوليكية المتشدّدة التي وردت أكثر من مرة في روايات دان براون، وخصوصاً "شيفرة دافنشي"، كما عرف بمواقفه ضد لاهوت التحرير الَّذي شهدته بعض الكنائس في أميركا اللاتينية ضد النفوذ الأميركي، وظلّ رافضاً للفلسفة والمنطق والنسبية والشكّ والتساؤلات في مسألة المعرفة.
وقد انتخب هذا الكاردينال (فوتيلا) وأخذ اسم يوحنا بولس الثاني بعد عمليَّة شاقة داخل مجلس الكرادلة، أصرَّ فيه تيار معروف على انتخاب بابا من بولندا تحديداً، وهي التي كانت تشهد صراعاً بين الاشتراكية المدعومة من الاتحاد السوفياتي ورجال الكنيسة المدعومين من الإدارة الأميركية.
بعد وفاة البابا بولس السادس، ومن أجل استمرار مواقفه (عبرانية المسيح وتبرئة اليهود من دم المسيح)، وبفعل الخشية من عودة التيار البابوي المناهض لليهوديّة، كما سنرى، مرّت عملية انتخاب البابا بولس الثاني بمحطتين تحتاجان إلى التمعّن:
- وفاة البابا يوحنا بولس الأول الذي جاء بعد البابا بولس السادس بعد 33 يوماً فقط من انتخابه. ولم تشرّح جثته لشكوك في وفاته السريعة، ردّها البعض إلى عمل مشبوه للمخابرات الأميركية والماسونيّة. وكان البابا بولس الأول المتوفى قد صرّح بأنَّ المسيحي يمكن أن يكون ليبرالياً أو شيوعياً.
- فشل انتخاب الكاردينال الإيطالي جيوفاني بنيلي المناهض لسياسات البابا بولس الثاني، والتدخّلات الأميركية في شؤون الفاتيكان.
ومن العوامل الأخرى التي فسّر البعض من خلالها الإصرار على البابا بولس الثاني هو مشروعه، وهو كاردينال لبناء تحالف واسع من كل الديانات ضد الاشتراكية. وقد عُرف بحماسه للإبراهيمية و"حوار الأديان"، بما في ذلك بوذية الداي لاما ضد الصين، واليهودية، وهو المشروع الَّذي كرّسه بعد انتخابه بزيارات واسعة إلى بلدان مسيحية وإسلامية. كما زار الكيان الصهيوني وما يعرف بنصب المحرقة "يادفاشيم"، وكذلك "حائط المبكى"، مكرّساً مزاعم اليهود فيه.
ولعلّ الأخطر هنا هو اعترافه بـ"إسرائيل"، بعد أن ظلَّ الفاتيكان متحفظاً على ذلك ومتمسّكاً بمواقفه الداعية إلى عودة اللاجئين، بل إنّ تياراً قوياً في الفاتيكان قاده في السابق البابا بنديكت كان ضدّ وعد "بلفور" وقرار تقسيم فلسطين.
وهناك من أعاد مواقف البابا يوحنا بولس الثاني إلى جذوره الليتوانية قبل استقراره في بولندا، وإلى البيئة اليهودية في ليتوانيا، وعلاقاته مع منظمات الخدمة اليهودية فيها، مثل "بناي بريث"، و"إي. دي. إل"، ومنظمات التهجير اليهودي إلى فلسطين، والدفاع عن "إسرائيل" في كلّ مكان.