دونالد ترامب غادر البيت الأبيض غير مأسوف عليه

القضيّة المحورية التي بقيت من إرث دونالد ترامب البائس، وهي استمرار الحصار الظالم والعدوان السّافر على الشعب اليمني، والتي تنتظر من إدارة بايدن المعالجات العاجلة.

  • الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب
    الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب

سيظلّ اسم دونالد ترامب مثار جدل وحديث طويل لا ينتهي، وسيظل ذكره يتردد على لسان المهتمين والاختصاصيين والعوام وعابري السبيل، وفي مواقع التواصل الاجتماعي عامة، وسيظل الجميع يكتب عنه وعن أعماله المشينة التي حقّقها على مستوى وطنه الأميركيّ وعلى مستوى العالم، لأنه بحق قدَّم ذاته بطريقةٍ فريدة لم يسبقه إليها أي رئيس أميركي على الإطلاق.

وسيظلّ العالم يتذكّر صعود نجمه في الانتخابات الأميركية في العام 2016م، والذي اعتبره الكثير من المحللين أشبه بصدمة غير متوقعة لم يعتدها الرأي العام الغربي الرأسمالي (الحر)، وتحديداً الرأي العام الأميركي، إذ شهد العالم وأميركا على وجه الخصوص مظاهر غريبة وتصرفات غير متوقعة خلال السنوات الأربع المنصرمة، لكن الإثارة المُفزعة للجميع تمثلت بأن ترامب، وهو القابض على مقاليد الحكم طيلة 4 أعوام في أقوى وأغنى دولة في العالم، يقول بشأن انتخابات العام 2020م إنها مزورة ومسروقة، وإن الأجهزة الأمنية غير صادقة والإعلام الأميركي كاذب، وإن الدولة العميقة تُزيِّف الحقائق.

 وكرَّر القول آلاف المرات بأنَّ هناك 75 مليون ناخب أميركي أعطوه ثقتهم وأصواتهم، وبالتالي فإنه يعدّ نفسه الفائز بالانتخابات، وكذلك أتباعه. هذه المفردات لم نعهدها في جميع الانتخابات في البلدان الرأسمالية الغربية "الليبرالية"، والمتفق عليه هو أن يعلن المرشح الخاسر، وإن بأصواتٍ محدودة، فوز غريمه، ويحمل هاتفه الأرضي أو المحمول لتهنئة الفائز بالانتخابات، ويتمنى له التوفيق في قيادة البلاد، انطلاقاً من احترام التقاليد "الديمقراطية" في العالم الغربي.

 أمَّا دونالد ترامب، وهو المعروف بنرجسيّته المفرطة، والقادم من صالات كازينوهات ومراقص لاس فيغاس الشهيرة بالمجون والانفلات الأخلاقي والقيمي، فإنّه أبى إلا أن يكسر جميع "المحرمات" والتقاليد السياسيّة والإدارية المتعارفة في أروقة السياسة والسياسيين في العاصمة واشنطن، وعمل ما لم يعمله الأولون من الرؤساء في السياسة والإتيكيت الأميركي العام في التعامل مع جميع القضايا، وبقي على موقفه منذ لحظة إعلان نتائج الانتخابات في 3 تشرين الثاني/نوفمبر 2020م، مروراً بـ"غزوة" الكونغرس يوم الأربعاء بتاريخ 6 كانون الثاني/يناير 2021م، وحتى يوم التنصيب الرسمي في 20 كانون الثاني/يناير 2021م. لم يتغيّر في مفرداته وخطابه السياسي وعنجهيته العنصرية، وغادر البيت الأبيض بطائرته الرئاسية متجهاً إلى فلوريدا، كي لا يشارك في مراسم تنصيب الرئيس الأميركي الجديد الـ46 السيد جوزيف بايدن.

وهنا، يمكن لأي كاتب أو شخص هاوِ لعرض سرديات الرؤساء أو الشخصيات المثيرة للجدل أن يكتب العديد من الحكايات والقصص والروايات عن شخص الرئيس الأميركي الـ45، وسيجد مئات الموضوعات للخوض فيها عن سلوكه وتصرفاته ومواقفه وقراراته غير السوية تجاه مختلف القضايا والمواقف على المستويين الأميركي والعالمي على حدٍ سواء، لكني هنا في صدد إثارة 3 محاور في سلوكه الشخصي المرتبطة بالمحيط الإنساني والإقليمي، وهي:

 أولاً: موقفه الشعبوي العنصري وإيمانه بالحق الإلهي للجنس الأبيض الأوروبي في الأرض الأميركية

يعيش المجتمع الأميركي حالة انقسام عمودي وأفقيّ حاد مُنذ أن نشأ هذا المجتمع "الخليط" في العام 1492م، حين غزا القرصان كريستوفر كولمبس أراضي الأميركيتين واحتلَّها بقوة السلاح والمال والرهبان. نطالع في السيرة التاريخية الموثقة لتدفّق الآلاف من الغُزاة الأوروبيين البيض (إسبانيين، ألمانيين، برتغاليين، إنجليز، إسكوتلنديين، إيرلنديين، فرنسيين، إيطاليين، إسكندنافيين، وغيرهم من الأقوام الأوروبية البيضاء) إلى هذا البلد الغني بحضاراته وموارده الطبيعية، ونتذكّر حقائق القصص المُرعبة لجرائم الإبادات الجماعية التي أقدم عليها الإنسان الأوروبي الأبيض بحق السكان الأميركيين الأصليين، وبمباركة روحية من قداسة البابا المرابط في الفاتيكان، بالشراكة مع القساوسة الإنجيليين اللوثريين المحسوبين على التيار المجدد للديانة المسيحية برمتها.

 يؤمن الأوروبيون على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم بشكلٍ عام بأنهم جنس وعرق أبيض متفوّق على جميع الأعراق، لأنهم من صنع الحضارات المتعاقبة منذ زمن الإغريق وحتى يومنا هذا، وهم وحدهم من واجه مخاطر المغامرة القاتلة لعبور المحيط الأطلسي، ووصل إلى الأراضي الأميركية، وأنهم نقلوا إليها الحضارة الأوروبية ذات التميّز في الإنجازات العلمية والثقافية والإنسانية. ولذلك، فإن الأرض الأميركية حق مطلق لهم، وليس للمواطنين الأميركيين الآخرين القادمين من جميع القارات الحق في المساواة بالإنسان الأبيض، أي أنَّ أميركا ليس مجتمعاً متعدد الثقافات والهويات والأعراق.

 يقول السيد مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركية الأسبق، وهو من أشد أنصار الرئيس دونالد ترامب، في إحدى تغريداته، إنَّ المجتمع الأميركي ليس مجتمع التعددية العرقية. وهنا يريد أن يقول لأنصاره مِمَّن صوتوا لترامب إنه مجتمعكم الأبيض الأوروبي.

هذه النظرية العنصرية المبنية على ما سلف تُشير إلى أصالة ثقافةٍ سائدة لدى شريحة من الأوروبيين البيض الذين يؤمنون بتفوقهم العرقي على بقية الأجناس والأعراق. لا نريد هنا الخوض في هذا المجال بتوسع، فهناك العديد من المفكرين والفلاسفة والإعلاميين الذين ينتمون إلى العرق الأبيض، ويعزّزون هذه الفكرة بمقالات وكتابات وفلسفات إلى حدّ الهرطقة، ويبررون علناً وجود ذلك التميز، وما يؤسف له، رغم كل ما يُقال عن حقوق الإنسان، أنَّ هؤلاء يجاهرون بعنصريّتهم بحمايةٍ من القانون الأميركي السائد.

 إذاً، لم يخترع دونالد ترامب فكرة العنصريّة الشعبويّة، فهي موجودة ومتجذّرة في المجتمع الأميركي، والصّراع كان قائماً مُنذ أن شرع الآباء المؤسّسون للدولة الأميركية قضايا العبودية واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وقانون الغاب الذي تم بموجبه إعدام وتصفية الملايين من السكّان الأصليين لأميركا.

 ثانياً: موقفه من الهجرة القادمة من أميركا اللاتينية وايمانه بأن المهاجرين هم سبب تفشي الجريمة والمخدرات والاغتصاب وخلافه:

 بحكم التجاور بين الولايات المتحدة الأميركية ودُول أميركا اللاتينية الجنوبية، يتدفّق الآلاف من المواطنين اللاتينيين إلى بلد "الحلم الأميركي"، كي يحصلوا على فرصة عمل ويتخلصوا من الفقر المستوطن في بلدانهم في أميركا الجنوبيّة. وقد اعتبرت حكومات الولايات المتحدة الأميركية المتعاقبة أن المكسيك وجميع بلدان القارة الجنوبية وبلدان الكاريبي حديقة خلفية لها، تتنزه فيها وقت فراغها، وتقيم نوادي القمار، وتجعلها محطات للعبث الليلي للنافذين من رجال السياسة والمال والأعمال الأميركيين. 

وإذا ما حاولت دولةٌ ما أن تخرج عن طاعة البيت الأبيض، فإنَّ الانقلابات الدموية لعملاء الـ"CIA" جاهزة للتنفيذ، والأمثلة هنا عديدة. أما إذا نجحت أي تجربة ثورية يسارية في أي بلد لاتيني، فمصيرها الحصار، كما حصل في تجربة كوبا الاشتراكية المحاصرة مُنذ ما يزيد على 60 عاماً، والتجربة الساندينية في نيكاراجوا، وتجربة فنزيلا البوليفارية. كل تلك التجارب ظلت محاصرة سياسياً واقتصادياً لعقود. هكذا تتعامل إدارات الولايات المتحدة الأميركية مع المختلفين معها بالرأي والتجربة.

لذلك، كان من بين شعارات الحملة الانتخابية لترامب بناء جدار عازل بين المكسيك وأميركا، ليحمي بلده، كما يزعم، من المخدرات والجرائم وغيرها. وبالفعل، شرع في بناء جدار الفصل العنصري، وهو أشبه بطريقة "دولة" الاحتلال الصهيوني حين بنت جُدراً عازلة في الأرض الفلسطينية، وعملت على فصل أطفال المهاجرين عن أسرهم... وغيرها من الأساليب غير الإنسانية التي مارستها الإدارة الأميركية السابقة تجاه المهاجرين اللاتينيين.

 ثالثاً: موقفه من الشّعوب الإسلامية وإيمانه بأن هذه الأمة الكبيرة مصدر خطر حقيقي على الثقافة الأميركية والغربية بشكلٍ عام

هناك فهمٌ عام لدى المتعصّبين العنصريين في أوروبا وأميركا بأن الدين الإسلامي واعتناق الناس له بشكلٍ واسع قد يشكل خطراً على مستقبل الحياة الغربية الليبرالية، وتحديداً على الديانة المسيحية بشقيها الكاثوليكي والبروتستانتي. ولذلك، طوَّرت أجهزة المخابرات الأميركية والأوروبية المتصهينة نظرية "الفوبيا الإسلامية". هذه المعلومات أصبحت متاحة للمهتمين، وهي تقول إنه بعد سقوط المنظومة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينيات من القرن العشرين، تم البحث عن عدو بديل وجديد لمناهضة المعسكر الغربي، وتحديداً حلف الناتو، ولم يكن موجوداً في السّاحة سوى الإسلام الواسع الانتشار وذي التأثير الشعبي الكبير. وقد تحوّل إلى مصدر جذب للعديد من الشعوب والجماعات كي تعتنقه.

ولذلك، ومُنذ ذلك التاريخ، تم البحث في إلهاء الأمة وشغلها بذاتها، من خلال إنشاء منظمات تحت مسميات متطرفة (إرهابية) وإسلاميّة، وكان أبرزها تنظيم "القاعدة" و"داعش" وجبهة "النصرة" و"أنصار القدس" و"أنصار الشريعة"، والعديد من المسمّيات في هذا الشأن، وجميع هذه المنظمات (الإسلامية) الإرهابية تعمل وفق أجندات استخباراتية غربية صهيونيّة، ويجري تمويلها بسخاء من أموال مُعظم دول مجلس التعاون الخليجي العربي للأسف.

وبمجرد وصول دونالد ترامب إلى سدَّة الحكم في البيت الأبيض الأميركي، أصدر مرسومه الشهير بمنع قبول المهاجرين إلى أميركا من عدد من الدول ذات الأغلبية المسلمة كتمييز عنصري ضدهم، وانسجاماً مع الفكرة العامة من قضية الخوف من الإسلام وانتشاره في المجتمعات الغربية.

نلاحظ من خلال استعراض المحاور الثلاثة أنَّ جوهر المشكلة موجود في قلب النظام السياسي والاقتصادي والأخلاقي الأميركي، وأن دونالد ترامب لم يأتِ بجديد سوى أنه جيَّش جزءاً مهماً من الطبقة العنصرية الشعبوية البيضاء التي ترى أنها الفئة الوحيدة المؤهلة لإدارة أميركا واستغلال خيراتها، وأن الآخرين من بقية الأعراق ليسوا سوى ضيوف غير مرحّب بهم، وربما يأتي يوم ما في قادم الأيام يعود فيه البيض لسيادة أميركا بشكل مطلق من جديد، ويعملون على تصفية "الضيوف" الجدد عرقياً، كما حصل لسكان أميركا الأصليين من حضارات شعوب الآنكا والمايا وغيرهم من أهل الأرض الأصليين.

هذا هي الحقيقة المُرَّة لنشوء وتكوّن الولايات المتحدة الأميركية. واليوم، إن الظروف الموضوعية والذاتية تهيأت لحربٍ أهلية داخلية دامية، لأن جذر الصراع على السلطة والمصالح تمت تهيئته مُنذ البداية، ولن ترى أميركا العافية إلا عندما تتجرأ الطبقة السياسية الحالية على معالجة جذور التحديات العميقة المستوطنة في المجتمع الأميركي، وهي عديدة، وتؤثر بدورها سلباً في الاقتصاد والسلم العالمي، لكن كيف نفهم طبيعة العلاقة بين الرئيس دونالد ترامب وفريقه "الساقط" في الانتخابات وعدد من الحكام "العرب" المهرولين إلى التطبيع؟

 عرف العالم برمّته مؤشرات سقوط مشروع ترامب السياسي. ولذلك، ابتعد عنه أقرب حلفاء أميركا، وتخلّوا عنه، هرباً من وضع أي التزام أمام بلدانهم، وكان الاستثناء حول العالم هم "الأَعْرَاب" وبعض العرب المستعربة. وقد شاهدنا كيف يأتيهم سيدهم جاريد كوشنير، اليهودي المتصهين، صهر ومستشار السيد دونالد ترامب، ويأمر هؤلاء الذين يدَّعون أنّهم "ملوك" و"أمراء" و"مشايخ" و"رؤساء" كي يجتمعوا معاً ويطبِّعوا مع العدو الصهيوني ويتصالحوا في ما بينهم، فيطيعونه طاعةً عمياء، وهو أمر أعيا الرأي العالم العالمي برمته في فهم طبيعة العلاقة في ما بينهم.

ونحن نقولها مراراً: إن حلفاء أميركا الحقيقيين من أوروبا الغربية واليابان وكوريا الجنوبية وجمهوريات الموز اللاتينية وأفريقيا السوداء قرروا جميعاً الابتعاد عن "شلة" ترامب وفضائحه السياسية، إلا هؤلاء العُربان أبوا إلا أن يكونوا أضحوكة العالم بأسره، وتحولوا إلى أشبه بنكتة ساذجة يتندّر بها الجميع.

وللعلم، إن جميع هؤلاء "الأرجوازات" المتصهينة هم الذين شنوا عدوانهم الظالم على اليمن العظيم في صبيحة يوم الخميس 26 آذار/مارس 2015م، أليس في ذلك مفارقة عجيبة! يستأسدون على الجار الشقيق مُنذ 6 سنوات، ويتحولون إلى ما يشبه أرانب سهلة الانقياد، يحركها جاريد كوشنير أينما أتجه!

بقيت قضيّة محورية من إرث دونالد ترامب البائس، وهي استمرار الحصار الظالم والعدوان السّافر على الشعب اليمني، وغيرها من التحديات على مستوى العالم، والتي تنتظر من الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة الرئيس جوزيف بايدن وفريقه الجديد المعالجات العاجلة، لكي تُظهر الفرق بين الإدارة القديمة غير المأسوف عليها والإدارة الجديدة، لعلها تحمل في برامجها مشاريع السلام على مستوى العالم والاستقرار في منطقتنا العربية - الإسلامية تحديداً. وقد تابع الرأي العام العالمي مؤخراً باهتمام بالغ أنَّ هناك مراجعة عاجلة وجادة للقرارات الارتجالية التي صدرت في الدقائق الخمس الأخيرة من فترة ولاية ترامب؛ الإدارة المنتهية الصلاحية.

وقد صدرت بحقّ جماعة "أنصار الله" (الحوثيين) في الجمهورية اليمنية، وبحقّ جماعات مقاومة في كلٍ من العراق وسوريا ولبنان وجمهورية إيران الإسلامية. وعلى المستوى الدولي، طالت كلاً من روسيا الاتحادية والصين الشعبية. تلك المراجعات هي معيار مصداقية إدارة جو بايدن للمرحلة المستقبلية.