المرجعيات اليهودية للإسلام الأطلسي
بات معروفاً أن الإسلام السياسي الأطلسي في غالبية تياراته خرج من لندن بحسب كتاب المؤرِّخ البريطاني مارك كورتيس.
هل صحيح أن المرجعيات الأساسية للإسلام السياسي الأطلسي، تعود إلى أسماء مثل المودودي، والندوي، والبنا، وقطب، ومن المُعاصرين إلى الغنّوشي، والقرضاوي، وإردوغان؟ أم إلى مرجعيات يهودية في الخطاب السياسي (برنار لويس) وفي التشريع السياسي (نوح فيلدمان) وفي الفكر (شتراوس)؟
بالتدقيق في الكتابات السائِدة للأسماء غير اليهودية، نجد أنها تفتقر إلى أية مُقارَبات ذات شأن في الخطاب والتشريع معاً، حيث تغلب عليها المُقارَبات الأيديولوجية والفُقهية.
شيءٌ من التاريخ
بات معروفاً أن الإسلام السياسي الأطلسي في غالبية تياراته خرج من لندن (لندن ستان) بحسب كتاب المؤرِّخ البريطاني مارك كورتيس (التاريخ السرّي لتآمُر بريطانيا مع الأصوليين، ترجمة كمال السيّد، المركز القومي للترجمة، القاهرة).
ويُشار هنا إلى وزارتي الخارجية والمُستعمرات وMI6 (المخابرات الخارجية البريطانية) التي ورثت قلم الاستخبارات في شركة الهند الشرقية البريطانية، كانت تحت إشراف رئيس الوزراء الأسبق من أصلٍ يهودي، دزرائيلي، صديق آل روتشيلد.
وكانت الأولى، وزارة الخارجية، تُدير عملها في الشرق من خلال المكتب العربي في القاهرة ومعهد شملان في جبل لبنان، ومن خلال شعبة خاصة في كلية فكتوريا السابقة في الإسكندرية.
أما الثانية، وزارة المُستعمرات، فقد كانت تُدير عملها من خلال مكاتب في الهند وباكستان والبصرة وطهران وبغداد.
ويُلاحَظ في كل ذلك أن الاهتمام بالحفريات والآثار كقناعٍ لنشاط رجال الاستخبارات الإنكليز، ترافق مُبكراً مع علاقاتٍ مع قوى إسلامية، الأمر الذي يُفسِّر سرّ الموجات الإسلامية الأولى من مناطق سيطرة الاستخبارات البريطانية وخاصة دائرة باكستان- الهند: أبو الأعلى المودودي، والندوي، وكذلك سيّد قطب الذي يعود إلى أصولٍ هندية، ثم ظواهر المجاهدين المشبوهة في أفغانستان وغيرها والتي امتدّت لاحقاً إلى سوريا والعراق وليبيا وسيناء برعاية إردوغان.
ويُشار هنا إلى إسمٍ مهمٍ جداً، هو بيركهارت، وهو آثاري ورحَّالة سويسري من أصولٍ يهوديةٍ متمسحة، ويُنْسَب له اكتشاف الكرنك في مصر والبتراء في الأردن، وقد جنَّدته المخابرات البريطانية ليصبح واحداً من أهمّ قنوات التواصُل لها مع الحركة الوهّابية، عبر الشيخ عبد الله اللوزاني (نسبة إلى لوزان وليس إسم عشيرة) الذي صار من أهمّ مصادر الفكر الوهّابي في الوثائق الأوروبية، بالإضافة إلى مُذكَّرات الضابطين، همفري وشكسبير.
المهندسون اليهود والإسلام الأطلسي
أولاً: المهندس الأعظم للخطاب السياسي للإسلام الأطلسي برنار لويس
لويس مؤرِّخ يهودي بريطاني انتقل إلى الولايات المتحدة وواصل مشروعه (بَعْث النهضة الإسلامية أو البَعْث الإسلامي مقابل الفكر القومي) وخاصة في كتابه (لغة السياسة في الإسلام، ترجمة إبراهيم شتا، دار قرطبة) الذي أسَّس للخطاب السياسي الإسلامي الأطلسي الراهِن، حاثّاً العرب والمسلمين على القَطْعِ مع حضارة الغرب الكافرة وإعادة إنتاج ثقافتهم وحضارتهم الإسلامية بمُعزل عن تلك الحضارة.
كما يُعدّ أيضاً مهندس الانبعاث العثماني مع مُستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق، بريجنسكي وذلك بإقامة طَوْقٍ إسلاموي يمنع روسيا من الصحوة مُجدَّداً ويتصدَّى كما يرى للخطر الإيراني.
أما مصداقية لويس الإسلاموية، فيمكن التأكّد منها في المشروع الآخر الذي قدَّمه لتمزيق الشرق العربي إلى كياناتٍ طائفية، وأقرَّه الكونغرس الأميركي بالتوازي مع الانهيار السوفياتي والعدوان على العراق وتهديد سوريا من قبل العدوان الأطلسي- الرجعي- الصهيوني- العثماني- التكفيري.
ثانياً: التشريع السياسي، نوح فيلدمان
وهو يهودي أميركي، من خرِّيجي كلية الحقوق في جامعة هارفارد وحاصل على الدكتوراة في الفكر الإسلامي من جامعة أوكسفورد. من مؤلّفاته (تدهور الدولة الإسلامية ونهوضها) وهو صاحب المذكّرة التي نُشِرَت عام 2003 ويدعو فيها أصحاب القرار في العواصم الأميركية- الأوروبية إلى اعتماد الإسلاميين كبديلٍ لما أسماه بالحرس البيروقراطي القديم في الشرق، وتوقَّف عند أسماء مثل الغنّوشي وإردوغان والقرضاوي وخالد أبو الفضل.
بَيْدَ أن أهميّة فيلدمان تكمُن في تصوّراته حول الدساتير البديلة، مثل الدستور المنسوب إلى بريمر، الذي استبدل الدستور العراقي السابق بالدستور الطائفي اللاحِق الذي قسَّم العراق إلى كياناتٍ طائفيةٍ بما يتناسب مع مشروع برنار لويس التمزيقي.
ويُشار هنا، إلى أن الأميركيين وفيلدمان وما فعلوه في العراق وما يحاولون تكراره في سوريا، نسخة طبق الأصل عمّا فعله الفرنسيون في سوريا بعد احتلالها قبل قرن تقريباً.
فقد فرضوا دستوراً طائفياً بعد أن مزَّقوا الدستور السوري، الذي سبق وأقرَّه المؤتمر السوري العام سنة 1920 وكان يدعو إلى حاكمية الشعب والأمَّة وألا يترك للعوامل الدينية أيّ مجال في السياسة والأحكام العمومية، كما اعتبرت المادة العاشرة منه أن المواطنة هي الوحدة الأساسية للدولة بغضّ النظر عن أيّ انتماء ديني أو لغوي أو إثني.
ثالثاً: المهندس النظري ليو شتراوس
شتراوس، مُفكّر أميركي من أصلٍ يهودي ألماني، اهتمّ بالفلسفة الإسلامية ولا سيما في العصر الوسيط، كما عُرِفَ بأنه أحد مهندسي اليمين والمحافظين الجُدُد في أميركا، وهو كما بوبر، ضد النهج الاستقرائي الأرسطي وضد التاريخانية وضد ما يُسمّيه الشمولية، كما ضد تيار في الوضعية، التي يمكن قبولها في العلوم الطبيعية وليس في السياسة والحقل الاجتماعي.
ولعلَّ النقطة الأهمّ في فلسفته، هي تحفّظه على الليبرالية المُفْرَطة التي تصل حد المساواة، ما يتناقض برأيه مع تأويله لفكرة الحق الطبيعي والمبادئ الطبيعية والفطرية كما لو أنها عُنصرية في حدّ ذاتها.
مقابل ثُنائية فلسفة الإغريق- الحضارة الأوروبية المسيحية، يركِّز على تيار بعينه من الفلسفة، أي الفلسفة السياسية، وخاصة في العصر الوسيط مُمثَّلة بالفارابي (القرن العاشر) وقراءاته لأفلاطون وبالحاخام والفيلسوف، موسى بن ميمون (القرن 12).
ويرى في الفلسفة السياسية، الفلسفة الأهمّ في الفلسفة، وقد مرَّت بأكثر من مرحلة، من الفلسفة الكلاسيكية إلى الفلسفة الحديثة، بدءاً بميكيافيللي وهوبز، مروراً بكانط وهيغل وحتى اليوم.
والفلسفة الوسيطة عنده هي الفلسفة التي تُعيد الاعتبار لتأويل خاص للدين مقابل التكالُب العِلمي التقني على الإنسان (الإنسان الذي لا يؤمِن بالمُساواة عنده) كما على الحضارة، وعندما يتحدَّث عن ثُنائي هذه الفلسفة، الفارابي المسلم وإبن ميمون اليهودي، فذلك بحسب قراءته لهما مع اقتطاع موقف لسبينوزا، ليس كل سبينوزا، يقرأ الدين بمنطق الفلسفة وليس العكس، بل إن الفارابي نفسه كما يرى تخفّى وراء أفلاطون لهذه الغاية.
كما يرفض شتراوس أية محاولة لخَلْطِ عِلم الكلام بالفلسفة، وهو الأمر الذي استند فيه إلى إبن ميمون، الذي يُقرّ كما إبن سينا وإبن طفيل بالظاهر والباطن، إقراره بالعامة أو العوام الذين يواتيهم الظاهر كما الدين، أكثر من الباطن والفلسفة.
وفي ما يخصّ الفارابي، يذهب شتراوس مذهب الذين يرون فيه أقرب إلى السياسة المدنية، بل إن لويس اعتبر أفكار الفارابي في (رسالة في السياسة) أقرب إلى ميكيافيللي.
وباختصار، فمشروع شتراوس أو هدفه من الفلسفة الوسيطة واستعادتها في هذا الزمن الرأسمالي، مشروع يختفي وراء السيطرة على الجموع بخطابٍ ديني مدعوم برؤيةٍ فلسفية، جوهرها المُقاربة العنصرية لليبرالية الجديدة التي ترفض فكرة المُساواة وصناديق الإقتراع وأفكار جون لوك وروسو حول العقد الاجتماعي، وتستند كذلك إلى فكرةٍ داروينيةٍ تقارب القانون الطبيعي وفق قانون الغابة.
رابعاً: من الأسماء الأخرى ذات الصلة، شاريل بينارد، أميركية يهودية وباحثة في مؤسّسة راند، ومُهتمّة ببعث موجة إسلامية على طريقة إردوغان والغنّوشي ومثلها الفريق المُلْحَق بمكتب وزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلينتون.
أما الهدف من كل ذلك في دوائر الاستخبارات الأميركية، فهو بناء حزام آسيوي مُحصَّن بتأويلاتٍ رجعيةٍ ضد أية آفاق لانبعاثات (شمولية) مُناهِضة للرأسمالية.