الحاوي إردوغان يخرج من جرابه السيناريو القبرصي
لذا بات لزاماً على كل شعوب المنطقة (وليس سوريا فقط) العمل على وضع أسس حل استراتيجي يحفظ مصالحهم على اختلاف قومياتهم وطوائفهم، فالمعارك تدار على أراضينا وتطحن عظام شعوبنا بعيداً عن أراضي وشعوب القوى المتصارعة على ثروات منطقتنا.
بوضوح أعلنها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال كلمة ألقاها على هامش اجتماع القمة السابعة للمجلس التركي للدول الناطقة بالتركية في العاصمة الأذرية باكو الثلاثاء في 15 تشرين الأول/ أكتوبر، على أن بلاده مصممة على إنهاء عملية نبع السلام قائلاً: "تركيا مصممة على استكمال عملية نبع السلام، إن هذه العملية خطوة لا تقل أهمية عن عملية السلام في قبرص عام 1974 ".
إن التذكير بأحداث قبرص سيساعدنا على فهم ما يرمي إليه إردوغان من المقارنة بين الغزو التركي لقبرص والعدوان التركي على سوريا: عاشت قبرص مرحلة من الفوضى والحرب الأهلية، وشهدت مجازر واغتيالات متبادلة بين حركة "أيوكا" (القبارصة اليونان) بزعامة الأسقف مكاريوس، وحركة "فولفان" (القبارصة الأتراك) بزعامة رؤوف دنكطاش.
ولم يفلح اتّفاق الاستقلال الذي وُقّع في المدينة السويسرية زوريخ عام 1959 بين الأطراف المتحاربة بضمانة الدول المؤثرة في الملف القبرصي (بريطانيا – تركيا – اليونان) في حل القضية وإحلال الأمن والسلام أكثر من ثلاثة أعوام.
على الرغم من أن الاتفاق تبعه انتخاب رئيس للبلاد ومصادقة على دستور جديد، إلا أن موجة العنف عادت بسبب رفض القبارصة الأتراك التعديلات الدستورية التي اقترحها الرئيس المنتخب مكاريوس.
وهكذا بقي الوضع مضطرباً في قبرص رغم إرسال الأمم المتحدة قوّات حفظ السلام عام 1964. واستمر هذا الوضع إلى أن تدخلت القوات التركية بشكل مباشر بعد 10 سنوات تماماً، إثر تدهور الأوضاع الأمنية بعد الانقلاب العسكري على الرئيس مكاريوس.
وقد تمكّن الجنود الأتراك من السيطرة على ثلث جزيرة قبرص، وأقامت الحكومة التركية مناطق آمنة على مساحة 3350 كلم2 بحجّة حماية القبارصة الأتراك الذين لم يكن يزيد تعدادهم على عشرين في المئة من تعداد السكان.
عاد الرئيس الشرعي مكاريوس إلى الحكم بفعل الضغوط الدولية، إلا أن الجيش التركي لم ينسحب من المناطق التي احتلّها، بل سارع الأتراك إلى إعلان قيام حكم ذاتي في شمال قبرص. وبهذا بدأت أعمال التغيير الديموغرافي، القبارصة الأتراك إلى الشمال، واليونانيون منهم إلى الجنوب. واستمر الحكم الذاتي حتى أُعلن عام 1983 برعاية تركية عن "جمهورية شمال قبرص"، واختير رؤوف دنكطاش أوّل رئيس لجمهورية غير معترف بها من قبل أي دولة، باستثناء تركيا.
ولا يزال وضع قبرص على ما هو عليه حتى يومنا هذا، ولا يزال القبرصيون يحلمون باليوم الذي تعود فيه بلادهم موحّدة في دولة واحدة وعاصمة واحدة، بعيداً عن التقسيم.
لنعد الآن مرةً أخرى إلى باكو ونتابع تصريحات إردوغان في إطار الترويج للعدوان على الأراضي السورية شرق الفرات ضمن عملية أسماها نبع السلام والتي انطلقت في 9 تشرين الأول/أكتوبر الجاري (أعلن عن إنشاء منطقة آمنة بطول 444 كم من الغرب إلى الشرق وبعمق 32 كم من الشمال إلى الجنوب سيعود إليها اللاجئون السوريون).
فما الغاية الحقيقية وراء مشروع المنطقة الآمنة؟
مشروع المنطقة الآمنة ما هو إلا عملية تركية لإنشاء جدار بشري داخل الأراضي السورية (على غرار الجدار الإسمنتي الذي بنته) على طول الحدود السورية التركية.
جدار بشري ينتج بعد عملية تغيير ديمغرافي وفرز دقيق للسوريين ولغير السوريين المراد توطينهم في مستوطنات تركية على الأراضي السورية
عملية الفرز الأولى تقوم على فرز عقائدي لانتقاء السوريين الذين يدينون بالولاء لحزب العدالة والتنمية على اعتباره الفرع الأقوى لتنظيم الإخوان المسلمين .
عملية الفرز الثانية تقوم على أساس عرقي، فالأولوية في الأماكن الاستراتيجية للتركمان وليس للعرب ولا لأي عرق آخر.
وهنا يجدر بنا التوقف عند مكان وزمان الإعلان عن طبيعة المنطقة الآمنة فهي إشارة تحمل في طياتها الكثير الكثير:
قمة الدول الناطقة بالتركية، أهداف تركيا كثيرة من وراء هذا المشروع:
1- السيطرة على الشمال السوري عبر إنشاء مستوطنات تضم الحاضنة الشعبية للرئيس التركي ولتنظيم الإخوان المسلمين.
2- خطوة على طريق تكرار السيناريو القبرصي، أي إنشاء دولة شمال سوريا على غرار دولة شمال قبرص، وساعة الإعلان ستترك لحين إنضاج المشروع وتهيئة الظروف المحلية والإقليمية والدولية .
3- الجدار البشري حارس أمين غير مكلف للحدود التركية، وسرب جراد تهدد به أنقرة بقية الأراضي السورية كلما اقتضت الحاجة .
4- مستودع كبير للعناصر الإرهابية (الايغور - الشيشان - الأوزبك - العناصر الإرهابية من أصول أوروبية وأميركية - العناصر الإرهابية من دول الخليج وأفريقيا) يتم استخراجهم وإرسالهم إلى دول ومناطق أخرى بحسب المصلحة التركية.
5- في حال تعذر تحقيق الهدف الثاني تكون الخطة التركية البديلة هي الإمساك بالشمال السوري كورقة تفاوض.
6- طبعاً الملف الكردي حاضر كأحد الأهداف التركية مع التأكيد أنه ليس الهدف الرئيسي والاستراتيجي للمشروع التركي، الجدار البشري سيشكل دعامة للجدار الإسمنتي للفصل بين الكرد في سوريا والكرد في تركيا .
المشروع التركي في سوريا هو حجر الأساس لبناء العثمانية الجديدة، والتي هي بدورها الفرع ورأس الحربة للمشروع الأكبر "مشروع الشرق الأوسط الكبير"، وهو مشروع لا يستهدف الكرد فقط بل يستهدف شعوب المنطقة الأصيلة كافة (عرب - فرس - كرد - أرمن - البلوش - آذريون - الطاجيك - أمازيغ - سريان – أشور).
لذا بات لزاماً على كل شعوب المنطقة (وليس سوريا فقط) العمل على وضع أسس حل استراتيجي يحفظ مصالحهم على اختلاف قومياتهم وطوائفهم، فالمعارك تدار على أراضينا وتطحن عظام شعوبنا بعيداً عن أراضي وشعوب القوى المتصارعة على ثروات منطقتنا.
ولذلك بدلاً من أن نتحارب فلنتحاور على إنشاء اتحاد قوي ومتين في منطقتنا يضمن حقوق الجميع القومية والإثنية ويضع حياة الشعوب استراتيجية بقائه. حينها قد نتحول إلى قوة عظمى تلعب بندية مع الإمبراطوريات الكبيرة وتضمن مكاناً لها بعد انتهاء موجة صدام الحضارات.
التشبيك بين شعوب المنطقة هو الحل برأيي فقد مللنا الحروب، مللنا التزييف، مللنا أن نكون بيادق تكون أول من يُضحى بها في لعبة الأمم.