المقاومة تُغلِق بوابات "القرن"

ما الذي يذهب إليه التصعيد الصهيوني على غزَّة؟

رسائل ليست عابِرة ولا تتوقَّف عند إظهار قوَّة الردع الصهيونية وإمكانية فتح جبهة جنوبية حذَّر منها قادة الأركان السابقين والأجهزة الأمنية أن الكلفة ستكون أكبر مما تتوقَّعة المؤسَّسة العسكرية.

في مؤتمر هرتسيليا  الـ19 " للمناعة القومية" لم يخف قادة الاحتلال والجنرالات السابقين والحاليين أن القلق من أن تنفجر غزَّة في أية لحظة وارِد في الحسابات... وكان لحزب الله أيضاً النصيب الأكبر من التهديد على مستقبل الكيان.

التوقّف أمام ما تدفع به واشنطن إلى المزيد من الأزمات في الإقليم وفق توجّهات جناح الصقور في الحكومة الأميركية الذي يرأسه مُستشار الأمن القومي جون بولتون ـ يُضيء على المواجهة المُستقبلية التي قد تطفو على السطح إن توافرت شروطها. وهذا التصوّر يُبنى على الدعم الذي تقدّمه الإدارة الأميركية لكيان الإحتلال وفق تهيئة المناخ الرسمي العربي لتقبّل ما ستُمليه من شروطٍ في القادم من الأشهر لإنهاء "ملف" فلسطين.

الجولة الأخيرة لجاريد كوشنير والتي شملت عدداً من الدول (الأردن ـ مصرـ البحرين ـ الإمارات) لم تكن كغيرها من الجولات وإنْ حملت في عناوينها العريضة توفير أوسع مروحة دعم لطرح إدارة الرئيس ترامب في ما يُسمَّى بـ"صفقة القرن"والحل الاقتصادي في المنطقة وفق ما يروّج له. لكن الأخطر في ذلك أن ما لم يرشح عنها في كواليسها والذي بدأ يظهر من خلال التدريبات الأميركية العسكرية المُتزايدة مع الأردن "الأسد المُتأهّب" وزيادة القروض لمصر والتصريحات مرتفعة السقوف أن الأمن الصهيوني ودعم الكيان هما في أولوية واشنطن.

ويبدو أن تطلّع بنيامين نتنياهو إلى إعادة عقارب الساعة للحرب على غزَّة كما فعل في 2014 لم تغادر يوميّاته ـ حيث أكَّد في لقاءاته الأخيرة مع الأحزاب اليمنية المُتطرّفة التي يسعى إلى تشكيل الحكومة معها أن غزَّة والمقاومة فيها ستكونان تحت ضربات نارية ولن تسمح للمقاومة أن تتحكَّم بغلاف مستوطناتها. وهذا التهديد ليس الأول من نوعه ولم يأت فقط في إطار الحملة الإنتخابية بل الحامِل لتوجّهات نتنياهو في إنهاء حال القلق التي تعيشها المستوطنات... وارتفاع منسوب المقاومة في الضفة الغربية التي فشلت كل الحكومات المُتعاقِبة إخماد مقاومتها التي تذهب إلى أشكالٍ مُتفاوتةٍ من الطَعْن إلى الدَهْس.

تسارع الحركة السياسية الأميركية في المنطقة أخذ رؤى مُتناوبة في فرض "صفقة القرن" فكانت خطوات الدفع نحو الإعلان قريباً عن الشقّ السياسي... بعد أن مهَّدت له في ورشة البحرين الاقتصادية وطرح قروض ستُمنَح للضفة الغربية الحديث عن 50 مليار دولار، وتسارُع الاستيطان في القدس وضواحيها مُترافِقاً كل ذلك مع عمليات الهَدْم كما حصل في صور باهر والتضييق على المخيّمات الفلسطينية كما في مخيّم شعفاط.

الخطورة تكمُن في الصمت المُريب الذي بدأ يتسرَّب من بعض أنظمة النظام الرسمي العربي التي لم تصدر حتى بياناً يُدين ما حصل مؤخّراً في القدس من اقتحاماتٍ شهدتها ساحاتها. ولم يصدر أيّ تعقيب من الأردن التي تُسمَّى راعية للمُقدَّسات.

ما الذي يحدث في الكواليس وهذا أخطر مما يتمّ تداوله علنياً؟

تتواصل الضغوط  لوقف مسيرات العودة والاقتراب من الحدود الفاصِلة بين غزَّة ونقاط الاشتباك... وهذا يترافق مع التحرّك القَطَري للمساومة على إدخال أموال المُساعدات للأُسَر التي تعاني من آثار الحصار المضروب للأسف عربياً قبل أن يكون صهيونياً. والصمت المصري على الجرائم الصهيونية اليومية تشي كلها أن هناك ما يلوح في الأفق من ضغوطاتٍ تهدف إلى فَرْضِ أمرٍ واقعٍ تراه واشنطن قابلاً للتبلور.

لا شك أن الموقف الفلسطيني الموحَّد من "صفقة القرن" يمكن البناء عليه في مواجهة هذا الانبطاح الرسمي العربي للقبول بما تطرحه واشنطن لإنهاء ملف الصراع العربي ـ الصهيوني وبرامج التوطين التي بدأت تتناغم أطرافها في تهيئة مناخات لها. وكذلك الضخّ الإعلامي الكبير لشيْطَنة المقاومة واعتبارها عدمية "لما جرَّته من ويلات" على الشعب الفلسطيني وهذه على لسان كتّاب وإعلاميين خليجيين يصدّرون آراءهم ـ ما أتيح لهم.

خطورة ما يحدث ودراماتيكية الأحداث التي لم تعد في الكواليس تتطلَّب استنفاراً لا يقف عند حدود الخطابات والاجتماعات والتصريحات والدعوة إلى تفعيل الانتفاضة فقط. فالانتفاضة الفلسطينية التي فجَّرها الشباب الفلسطيني في الضفة الغربية المحتلة منذ 2015 وإن كانت مُتفاوِتة التصاعُد إلا أنها لم تخمد، وأمثال الشهيد باسل الأعرج وتلاحمة ومهند الحلبي كثر، والتصعيد ينطلق من برامج واضحة المعالم  يُبنى عليها.

الانفجار الحتمي في الضفة الغربية المحتلة ليس ببعيد ـ وغزَّة لم تهدأ في مقاومتها وحقَّقت مُعادلات الرُعب التي تؤرِق قادة الاحتلال وهذا ما أكَّده مؤتمر هرتسيليا التاسع عشر على لسان الجنرال غادي أزنكوت حيث قال: "قطاع غزَّة فيه مليونا إنسان، وفي الضفة الغربية 2,8 مليوناً وجميعاً باتوا يرون الهجمات المُسلّحة هي الطريق الأساسية لتحقيق الحقوق السياسية والدينية والإجتماعية ما يجعل التحدّي والاستراتيجية أمام إسرائيل مُعقَّدة جداً". وفي مضمون كلامه إعطاء حقوق ما وكأن المسألة هي قضايا يمكن الإلتفاف عليها وليست أرضاً مُحتلّة لشعبٍ يقاوِم منذ 100 عام.

وقد حملت الكلمات في مؤتمر هرتسيليا رسائل أكَّدت على التطبيع وتسريعه مع النظام الرسمي العربي وضرورة لقاء أركان حرب الكيان مع نظرائهم العرب من وزراء، وهذا برأي الجنرال السابق عاموس جلعاد يحمل أهمية قصوى في مضامينه. وكما تطرَّق إلى إضعاف إيران ومُحاصرتها وهذا تتولاه أميركا. ولم تخل بعض الكلمات عن دور الأردن الأمني والفعلي في سياق إنهاء الصراع.

على نارٍ مُشتعِلة تسير"الصفقة" التي لم تهدأ من عقود ـ وهذا يُعيدنا إلى أن التصعيد في غزَّة والضفة قد يكون مُتسارِعاً ولا يحتاج إلى ذرائع. والمسألة هنا ليست بوقف الاتفاقات كما أشارت السلطة في رام الله. فالاتفاقات يأخذ منها الاحتلال ما يريد وهذا على لسان قادته. والخطوات الجدّية تقول بسحب الاعتراف من كيان الاحتلال الذي جرَّ الويلايات على الشعب الفلسطيني ـ والعودة إلى الميثاق الوطني الفلسطيني وإعادة بناء مُنظمّة التحرير الفلسطينية على تاريخها المقاوِم للاحتلال وكَنْسهِ من فلسطين.

الشعب الفلسطيني في تاريخ نضالاته وجهاده عبر عقود مرَّ بمراحل مُعقَّدة وعصيبة... ولم يتنازل عن ذرَّة ترابٍ واحدةٍ، وهُجِّر من أرضه ولم تفتر إرادته رغم كل محاولات التدجين والأسْرَلة والتوطين. ولم يحم إتفاق أوسلو من وقعه و"صور باهر" في عمليات الهدم قالت ذلك أن مناطق (أ) وهي التابعة للسلطة وفق الاتفاق هُدِمَت فيها المنازل ولم يتحرَّك أحد من رُعاة الاتفاق والرُباعية وغيرهم.

التصعيد الصهيوني في الضفة وغزَّة لم ينكفئ ولم يتراجع منذ عقود. لكن القواعد الجديدة التي فتحت الستار على تحالف رسمي لبعض الأنظمة مع كيان الاحتلال برعاية أميركية تقول الكثير في المشهد.

غزَّة في مقاومتها ورغم حصارها و"السمسرة" لأنظمة خليجية تلخِّص الحدَث:

إن كيان الاحتلال سيدفع إلى حروب صغيرة بين أخرى كبيرة... وسيلتزم النظام الرسمي العربي بتقديم كل الدعم لإنهاء المقاومة. والسلطة في رام الله ليست بوضعٍ يفرض أية شروط بعد أن تجاوزتها الأنظمة في عشرات الاتفاق التي تفوق أوسلو.

المقاومة هي الكلمة السحرية وهذا تُدركه غزَّة والضفة والقدس وأهلنا في عام 48 الذين لم يتنازلوا عن هويّتهم الوطنية.

تحالف المقاومة كما انتصر في سوريا... سينتصر في فلسطين. ومُعادلات القوَّة يفرضها الميدان. وقد نشهد على الهواء مباشرة احتراق الدبابات الصهيونية كم قال سماحة السيّد حسن نصر الله في ذِكرى النصر (13) في جنوب لبنان.