مهمّة قرطاج النضالية نحو انتخاب دولة القانون
بالفعل ليس من السهل على المُراقب للمشهد السياسي الحزبي في تونس أن يغضّ البصر عن الممارسات السياسية السلبية المُتواصِلة وجوهرها الاحتراب الأيديولوجي. فالجميع يسعى إلى كسب الانتخابات من دون برامج واضحة ورؤية سياسية واقعية، تُحلحل الأزمة المُتفاقِمة على جميع الأصعدة، وأولها الحرب على الفساد، المقولة التي رفعها رئيس الحكومة يوسف الشاهد ولم تُطبّق فعلياً.
البداية مع تجمّع يوم 26 تموز/ يوليو، ذلك لمئات التونسيين أمام المستشفى العسكري في العاصمة تونس تعبيراً عن حزنهم على وفاة رئيسهم الباجي قايد السبسي. في خطوةٍ هامةٍ منذ الإطاحة بزين العابدين بن علي عام 2011. نعم لا دبابات في الشوارع ولا حَظْر للتجوال ولا بيانات للجيش. وبعد بضع ساعات من وفاة السبسي أدّى رئيس البرلمان محمّد الناصر اليمين ليصبح رئيساً مؤقتاً للبلاد في انتقالٍ سَلِسٍ للسلطة في مهد انتفاضات الربيع العربي.
في وسط الروح العالية للديمقراطية، نجد الواقع يؤكّد استفحال ظاهرة الفساد، والتقارير المحلية والدولية تُثبت تزايُدها مُقارنة بما كانت عليه في السنوات الماضية، وجميع الأحزاب لا تمتلك رؤية لمُحاربتة، ولم تطرح مشروعاً مُتكامِلاً في هذا الشأن، بل إن أغلبها اكتفى بالتشكيك والقَدْح واستدامة العراك الأيديولوجي عنواناً للتعطيل والتقصير الفادِح، الذي يتحمَّل مسؤوليته جميع الفاعِلين السياسيين.
لقد فتح شغور منصب الرئاسة قبل أشهر قليلة من انتهاء ولاية الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي المجال لتنافُسٍ انتخابي لا يتجاوز الرغبة في الوصول إلى قصر قرطاج، من دون واقعية سياسية، في إطار المنظومة نفسها من الدعاية بين الطارئين على المشهد السياسي، والفاعلين السياسيين التقليديين، الذين يراوحون جدل الحداثة والظلامية، في الأثناء وكأننا بكرسي الرئاسة استحال ملكية عائلية لسكان الحاضِرة والساحل، في إقصاءٍ تامٍ للجهات الداخلية المُهمَّشة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
لقد أعلنت الهيئة المُستقلّة للانتخابات إن الانتخابات الرئاسية ستُجرى في 15 سبتمبر/ أيلول بعد أن كانت مُقرَّرة في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني. وينصّ الدستور على إجراء الانتخابات خلال فترة أقصاها ثلاثة أشهر منذ إعلان الشغور النهائي لمنصب الرئيس وتعيين رئيس مؤقّت. وستكون الانتخابات المقبلة ثالث انتخابات رئاسية تُجرى منذ انتفاضة عام 2011. ورغم أن الانتقال الديمقراطي في تونس حظيَ بإشادةٍ باعتباره قصة النجاح الوحيدة في بلدان الربيع العربي يشعر كثير من التونسيين بالضيق بسبب تردّي الأوضاع الاقتصادية وتدنّي الخدمات العامة.
الواقع أنه قد يكون التقدّم السياسي النسبي لم يصاحبه تقدّم اقتصادي. فتبلغ نسبة البطالة نحو 15 %، ارتفاعاً من 12 % في 2010، بسبب النمو الضعيف وتراجُع الاستثمار. كما بلغت مُعدّلات التضخّم مستويات قياسية. فعلى قدر ما حقّقته تونس من نتائج وإنجازات سياسية هامة في السنوات الأخيرة إلا أنها لم تتقدَّم على المستوى الاقتصادي حيث سجّلت التوازنات المالية للبلاد اختلالاً ملحوظاً تجسّد بالخصوص في تراجُع نِسَب النمو وتفاقم البطالة وبلوغ نِسَب التداين مستويات غير مسبوقة نتيجة تغيّر شبه هيكلي للنسيج الاقتصادي والمالي وظهور مشهد اجتماعي جديد.
قد يصعب تقييم ما عرفته تونس خلال هذه الفترة باعتبار أن المسألة تتعلّق بنواحٍ اقتصادية ومالية واجتماعية مُعقّدة وتقاطٌع المُستجدّات على المستويين الكمّي والنوعي، فالتحوّل الهيكلي للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية يأتي نتيجة عدم استقرار الأوضاع السياسية بسبب تبنّي مشروع النظام المجلسي الذي شتَّت الجهود وأحدث تذبذباً على المستوى التشريعي ورسم سياسات التنمية، وفق ما تُجمِع عليه أطياف واسعة من المجتمع، ففترة ما بعد الثورة أطلق عليها البعض "سنوات المؤشّرات المالية العِجاف". فلقد خسرت تونس إجمالاً منذ 2011 ما يزيد عن 250 ألف موطِن شغل بشكلٍ مباشر.
رغم ما تعانيه من أزماتٍ اقتصادية، فقد بدأ تقديم طلبات الترشّح للانتخابات الرئاسية في عملية تسجيل طلبات الترشّح للانتخابات الرئاسية المُبكرة، المُقرَّرة منتصف شهر سبتمبر/ أيلول المقبل لخلافة الرئيس التونسي الراحِل السبسي. وتمّ تقديم الطلبات بين 2 و9 أغسطس/ آب وسط دعوات بعض الأحزاب لتأخير هذا الموعد الاستثنائي حتى لا يتقاطع مع حملة الانتخابات التشريعية، وفتح المجال للمُرشّحين للاستعداد بشكلٍ أفضل لهذا الاستحقاق. وإن جاء إعلان بدء تقديم الترشيحات للانتخابات الرئاسية المُبكرة في تونس في مقر "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" في العاصمة وليستمر حتى التاسع من أغسطس/ آب الحالي.
الحقيقة الواقعة على الأرض أنه حضر الكثير ليُعرِب معلّقون منهم عن قلقهم حيال عدم استقرار الأوضاع السياسية في تونس بعد رحيل السبسي. وتحت عنوان "تفتح الباب لصراع أشدّ على السلطة"، جاء التحليل "تأتي وفاة الباجي قائد السبسي في ظلّ وضعٍ سياسي مُتأزّم، ومن المُنتَظر أن يشهد المزيد من الغموض خلال المرحلة القادمة بسبب ضعف أداء النخبة السياسية، واتّساع دائرة الصِراع على السلطة التي أضحى البعض ينظر إليها كغنيمةٍ في ظلّ وضعٍ اقتصادي واجتماعي صعب، وبين فكّيْ كمّاشة واقع إقليمي مُتقلّب".
لقد أعرب البعض عن أمله في أن تصبح وفاة السبسي "مُنطلقاً لتحالف وطني جامِع بين القوى التقدمية لقطع الطريق أمام أيّ طرف يحاول أن ينفرد بحكم البلاد". فقد تنبّأ البعض الآخر بوقوع صراعات حادّة تنتظر الساحة السياسية في تونس، حيث رَحَلَ السبسي تارِكاً عدداً من الملفات المفتوحة التي أراد حسمها خلال حياته، لكنها ستؤول الآن إلى الرئيس المؤقّت والبرلمان، وتخضع لحسابات فاعلين سياسيين مُتنافسين، حتى الآن، يبدو التعامُل مع الحال الطارئة سَلِساً ولا يتعرَّض لعراقيل، لكن المستقبل القريب يبدو حافِلاً بالصِراعات.
قد تظلّ مسألة تطبيق التعديلات في قانون الانتخابات مُعلّقة، ورَهْن رغبة الرئيس المؤقّت والبرلمان، لكن حتى في حال دخول التعديلات حيِّز التنفيذ وإقصاء عدد من الوجوه، ستشهد الرئاسيات تنافساً حاداً بين مُرشّحين لهم حظوظ مُتقارِبة، يسعى كل منهم إلى الوصول إلى قصر قرطاج، رغم الصلاحيات المحدودة لرئاسة الجمهورية. عليه ستدخل التجربة التونسية مرحلة اختبار جديد يتعلّق أولاً بكيفية اجتياز المرحلة الانتقالية من الآن حتى انتخاب رئيس جديد للبلاد بأقل ضَرَر ممكن... كما أنّه اختبار يتعلّق ثانياً بالقدرة على الحفاظ على التفاهُمات الواقعية التي أبرمها الإسلاميون والعلمانيون، بمعيّة شخصيات تجاوزت الحدود الفئوية ولغة الأحقاد والغلوّ من الطرفين، وفي طليعة تلك الشخصيات الباجي قايد السبسي، من جهة العلمانيين، والشيخ راشد الغنوشي من جهة الإسلاميين.
كذلك يبقى أنه الطريق نحو قرطاج.. سيحمل عديد المُفاجآت بين خلط جديد لأوراق اللعبة، على خلاف الانتخابات السابقة، فحركة النهضة الإسلامية في تونس عدلت عن سياسة المُرشّح التوافقي ودفعت لأول مرة في تاريخها بنائب رئيسها عبد الفتاح مورو كمُرشّحٍ لمنصب الرئاسة وسط مُنافسة محمومة. فلماذا أقدمت النهضة على هذه الخطوة؟ وهل ستخلط بذلك أوراق التحالفات القائمة والقادمة؟.. فقد انطلقت بُعَيْد وفاة السبسي حملة على مواقع التواصل الاجتماعي لترشيح وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي للرئاسية، وقد قام نواب بتزكيته، كما أعلن حزب نداء تونس إمكانية دعمه، فيما وصف رئيس حزب آفاق تونس ياسين إبراهيم الزبيدي بأنه "رجل المرحلة".
لكل ما سبق يسود الاعتقاد لدى فئة مهمّة من الناس بصعوبة تغيير الواقع السياسي التونسي، الذي يُحتكر فيه الفعل السياسي «المُكرّر»، وتُرفض مشاركة المُهمَّشين، وهو مسار يؤثّر سلباً على الحياة التشاركية والاندماج الوطني. تراهن الأحزاب السياسية على كَسْبِ معركة الرئاسة، لما لذلك من تأثيرٍ إيجابي يُكسب المُنتصر رصيداً مهماً في الانتخابات التشريعية التي ستليها مباشرة.
قد تكون هي الحاجة إلى تجديد الطبقة السياسية وقلب المعادلة الموروثة من العهد البورقيبي من ضروريات المرحلة، وليس من باب المُجازفة القول إن الرهان الانتخابي المقبل سيكون في يد الشباب، لأن أغلب الناخبين من هذه الفئة التي عُرِف عزوفها في أغلب المناسبات الانتخابية السابقة. وحضورها المُكثَّف سيُحدِث حتماً مفاجآت من باب التوازنات الجديدة صلب الحياة السياسية. وهو أمر مرغوب نظراً لاحتكار الشيوخ والعجائز السياسة في تونس، وافتكاكهم الثورة الشبابية التي انطلقت من هذا البلد، وأربكت كل الأنظمة الراكِدة في الوطن العربي.
إن الحاجة إلى تجديد الطبقة السياسية وقلب المُعادلة الموروثة من العهد البورقيبي من ضروريات المرحلة، فما الفائدة من إعادة انتخاب سياسيين ونواب فاشلين، حقَّقوا أرقاماً قياسية في الحضور السيّئ والخطاب البذيء داخل أروقة البرلمان وغيره من الفضاءات التي كشفت عدم تحمّل المسؤولية، من دون الحديث عن الانتهازيين الطارئين على المشهد السياسي، ممَن كان هدفهم الإثراء وكَسْب المال من دون التفكير في المصلحة الوطنية. هنا لا مجال للنائب المُكرّر والسياسي الذي أثبت فشله ولم يُغيِّر سوى حياته وحياة عائلته والمُقرَّبين إليه، على مدى خمس سنوات من النَهْبِ والرَكْض وراء الصفقات العمومية المشبوهة، وسرقة المال العام وإفلاس الدولة، وأغلبهم غاب عنهم نُكران الذات والكفاءة والمصداقية.
تبقى تونس عاصمة ربيع العرب في حاجةٍ إلى قيادةٍ ثورية وطنية وإلى نظامٍ سياسي واضحٍ غير مُشتَّت، تحتاج قيادة من عُمق الثورة ومن أعماق الشعب، بعيداً عن الواجهات الصوَرية للدولة العميقة. فمَن استقدم من الأرشيف البورقيبي وغيره لم يقدّم شيئاً ولم يُغيِّر حال البلاد والعباد، بؤس الحال والتفاوت الجهوي والفقر والبطالة مازالت قائمة ودار لقمان على حالها. تمّ تحصين عائلات مالية مُتنفِّذة ومالِكة، والثروات تستنزف من «الدولة الحامية» إلى جانب «كارتيل» مُستملِك بالوراثة.