"لا تنتظروا شيئاً من واشنطن"

بلداننا التي يدين معظمها بدين الإسلام يجب أن تكون مقتنعة أصلاً وقبل كلّ أحد أن هذه الحياة عابرة وأنّنا جميعاً مؤقتون وأنّ البقاء لله والأوطان والعمل الصالح. فلماذا لا نعمل وفق هذا المعيار حين يتعلّق الأمر بمصلحة وطننا ومستقبله ولماذا استسهل الكثيرون حمل ما خفّ حمله وغلا ثمنه وغادروا هذه الأرض وكأنّه لا يربطهم بها رابط ولا يعنيهم العيش فوقها بل يمكن أن يبنوا حياتهم في أيّ مكان.

روبرت فورد آخر سفراء أميركا في سوريا صاحب مقولة "لا تنتظروا شيئاً من واشنطن"

ربما كانت هذه هي الجملة الوحيدة الصادقة التي نطق بها روبرت فورد خلال سنوات من الترويج للحرب على سوريا والوعود الواهمة التي أطلقها لمعارضين ومنشقين تواطؤوا مع العدو ضد شعبهم وديارهم، فتسبّبوا بسفك دماء مئات الألوف وتهجير الملايين وتدمير البنية التحتية لقاء وعود كاذبة وحفنة دولارات قذرة. فقد شاهدناه بأمّ العين وهو يسوق بيده من أسماهم "معارضة" إلى مقاعدهم في لقاء بوردو – سويسرا- 2014، ولا شكّ أنّه سلّمهم النّص الذي عليهم أن ينطقوا به، واليوم وبعد سنوات من استخدام هؤلاء الذين انحدروا ليكونوا أبواقاً إعلامية ضد بلدهم وأهاليهم يلتفت إليهم روبرت فورد ليقول لهم "لا تنتظروا شيئاً من واشنطن".

في الوقت الذي تتحدث فيه الصحف الأوروبية والأميركية عن بدء حملة واسعة النطاق في تركيا ولبنان ضد السوريين والتي تهدف إلى إخراجهم من البلاد. هل كان على هؤلاء وأولئك أن ينتظروا سنوات ليكتشفوا أنّ أيّ عزّ خارج تراب الأوطان هو سراب، وهل رسمت حفنة من الدولارات غشاوة على أعينهم ليفقدوا ما أثبتته الأديان والتاريخ والأجيال بأنّ الوطن هو أغلى رأسمال يمتلكه الإنسان وأنّ كلّ ذرة تراب في الأوطان تستحقّ كلّ التضحيات المطلوبة لأنّها هي العزة والكرامة والعيش الآمن المستقرّ. أو لم يتعلم هؤلاء وأولئك درساً من تلك المرأة الفلسطينية العظيمة التي احتضنت شجرة الزيتون في وجه الجرافة الإسرائيلية معلنة للعالم أنّها إمّا أن تحيا أو أن تموت معها. ذلك لأنّها أدركت أنّ الوجود على الأرض هو الوجود الوحيد الجدير بالحياة، أمّا الهجرة واللجوء فطعمهما يفوق الموت مرارة وهواناً ومذلة.

لقد عملت واشنطن خلال عقود على اختراق مجتمعاتنا بعد أن عانت حجم الهزيمة في فيتنام تفتقت أذهان الباحثين عن طرائق جديدة لاستعمار الشعوب من دون إرسال جيوش جرّارة ودفع تكلفة باهظة، فقرّرت أن تعتمد على عناصر داخلية من الخونة تغريهم بمغريات مختلفة ليقفوا معها ضد مصلحة بلدانهم وليتوهموا أنّهم بذلك يصلون إلى السلطة. وهكذا نجد أنّ معظم ما حقّقته واشنطن والكيان الصهيوني في بلداننا العربيّة بعد حرب فيتنام قد اعتمد بشكل أساسي على شراء الضمائر وتجنيد المرتزقة من العملاء والخونة والاعتماد عليهم لدسّ السياسات التخريبية في البلدان تحت مسميّات مختلفة وغالباً من قبل متنفذين لا يرقى إليهم الشكّ، الأمر الذي سبّب نوعاً من الشلل في تقدم بلداننا العربيّة ومنع إقامة مؤسسات قوية قادرة على كبح جماح أيّ تيار أو توجّه لا ينسجم مع التوجّه الوطني الصرف. ذلك لأنّ الرؤية أيضاً في غالب الأحيان لم تكن واضحة في هذه البلدان واحتملت الأخذ والردّ بحيث تمكّن المخترقون والعملاء من تثبيت وجهات نظرهم في قلب الدولة ولم يتمّ التعامل معهم كخطر على الرؤية والمخطط والمستقبل المأمول. ولهذا نرى اليوم معظم بلداننا العربيّة فاقدة لبوصلة التوجه الوطني ليس لأنّها غير قادرة على اجتراح سبل المستقبل بل لأنّ الكثيرين من المزروعين في صلب الحكم يعملون لصالح الخصم الذي يستهدف مستقبل هذه البلدان، وليس الفساد سوى الوجه الأوضح من أوجه العمالة والخيانة لأنّه يغطّي تحركات متنفذين ويبرّر لهم أعمالهم الخطيرة على مستقبل الأوطان.

لقد أدركت الصين وإيران وفنزويلا بشكل أساسي أنّه لا يمكن انتظار شيء من واشنطن سوى العقوبات ورفع رسوم الجمارك وزيادة الضرائب هنا وهناك بهدف جمع الأموال وتطويع البلدان، فعملت الصين بشكل يثير الإعجاب على حماية أجيالها، فاخترعت لهم التقنيات الخاصة بهم، بحيث لا يصبحون فريسة لتقنيات الغرب، كما أنّها وضعت الخطط لتربيتهم على تقديس الأوطان منذ نعومة أظفارهم، فرّكزت أولاً على الانتماء في التعليم ما قبل المدرسي، بحيث يذهب تسعون في المئة من أطفال الصين إلى الحضانات ورياض الأطفال، كما أحسنت تربية الأجيال في كلّ مراحلهم حتى أنّ مسؤولاً أميركياً كبيراً اعترف أنّهم استقبلوا آلاف الطلاب الصينيين في الجامعات آملين أن يكسبوا ودّهم ويحوّلوهم إلى أدوات ضد بلادهم، ولكنّهم فوجئوا أنّ الجميع عاد إلى الصين ليساهم في تقدّم وتطوير بلاده بعد أن نال الشهادة والخبرة، وهذا التحصين المجتمعي والتعليمي هو الأساس والأهمّ في مواجهة الأساليب الإمبريالية الجديدة المكتوبة والمنشورة منذ عقود من قبل مراكز أبحاثهم.

وأيضاً سارت إيران في الأسلوب ذاته بعد أن حاولوا تفكيك مجتمعها من الداخل، ركّزت على رؤية إيرانية واحدة للأحداث التي تخصّ البلاد وأخذ الجميع يتحدثون عن المفهوم ذاته بأساليب وطرائق مختلفة، فنالت بذلك احترام الصديق والخصم، وبرهنت للعالم أنّها دولة واحدة بتيارات مختلفة تتنافس جميعها على حبّ البلاد والصمود في وجه الأعداء. رغم كلّ الميزانيات التي وضعها الغرب لدبّ الفرقة بين الإصلاحيين والمحافظين، فقد تمكنت الحكمة من تحويل ما اعتبره الأعداء نقطة ضعف إلى نقاط قوة ودروس يتعلّم منها الآخرون. كلّ هذا يتمّ إنجازه في بلدان الآخرين نتيجة الإيمان العميق أنّ الوطن هو الباقي وأنّنا جميعاً عابرون ونتيجة معادلة بسيطة وسهلة ومنطقية وهي وضع الوطن فوق كلّ اعتبار.

والغريب في الأمر أنّ بلداننا التي يدين معظمها بدين الإسلام يجب أن تكون مقتنعة أصلاً وقبل كلّ أحد أن هذه الحياة عابرة وأنّنا جميعاً مؤقتون وأنّ البقاء لله والأوطان والعمل الصالح. فلماذا لا نعمل وفق هذا المعيار حين يتعلّق الأمر بمصلحة وطننا ومستقبله ولماذا استسهل الكثيرون حمل ما خفّ حمله وغلا ثمنه وغادروا هذه الأرض وكأنّه لا يربطهم بها رابط ولا يعنيهم العيش فوقها بل يمكن أن يبنوا حياتهم في أيّ مكان. واليوم وبعد أن وصل عدد اللاجئين العرب الرقم الأول في العالم هل يستيقظ العرب من كبوتهم ليقيموا جليل الاعتبار للوطن وليرفضوا العيش إلا بين ظهرانيه حتى وإن كلّفهم الدفاع عنه حياتهم ودماءهم؟ هل يتعلّم الآخرون ممّا يتعرض له اللاجئون العرب اليوم في مناطق مختلفة من العالم، فيرفضون النزوح واللجوء ويتشبثون بتراب البلاد وأن يقضوا أو يعيشوا أعزاء أحراراً على هذا التراب؟ وهل نبدأ اليوم بتحصين الداخل في كلّ بلداننا بدءاً من المرحلة ما قبل المدرسية ويتوقف الجميع عن انتظار أيّ شيء من واشنطن أو السعودية أو من أيّ طرف لا يشاطرنا قضايانا وقيمنا وطموحاتنا. بعد كلّ ما ورد في التاريخ من دروس واضحة ونيّره انبرى من كان سبباً أساسياً في الحرب على سوريا ليقول "لا تنتظروا شيئاً من واشنطن" فهل من يعتبر؟