سوريا الوطن ليستْ قارورة غاز
انتشرتْ خلال الأيام العشرة الماضية ظاهرة ملفتة على وسائل التواصل الاجتماعي، فقد بادر أفرادٌ من النخبة الفنية والإعلامية السورية إلى توجيه انتقادات لاذِعة للسلطات المختصّة، بسبب الخدمات السيّئة، وبخاصة ندرة الكهرباء والغاز والمازوت والبنزين. ولعلّ الأحوال المناخية القاسية، قد لعبتْ دوراً ضاغطاَ أدى إلى ردود فعلٍ فريدة في طابعها الدرامي، إذ قالت الإعلامية السورية ماجدة زنبقة " .. الذين هُجِّروا أسعد حالاً من الذين ظلّوا في سوريا" وسمّى الممثل بشّار إسماعيل نفسه "بردان إسماعيل" وصرخ أيمن زيدان " تباً للصقيع والعتمة.. انتصرنا لكن لا معنى للنصر.
لماذا تقتلون بهجتنا بالنصر. لا يُتوَّجُ إكليلُ الغار بالعتمة.. نحن سكان الضوء، نكره صقيعكم وعتمتكم. شمسُ دمشق أبر من تبريراتكم. دعونا نتدفّأ بوطننا الذي نعشق. لا تجعلونا غرباء. لم يعدْ الوطن كما كان في الحكايا. أعيدوا لنا دمشق كما نعرفها".
من جهتها قالت الممثلة شكران مرتجى"..الشعبْ تعبانْ. ما في غاز. ما في مازوت. ما في بنزين. ما في كهرباء. معقول اللّي ما مات من العدو الخارجي يموت من البرد والقهر والغلاء. تعبنا من العتمة. بدنا نطلع عالضو. بيلبق لنا الضو. وبيلبق لبلدنا العظيم. كلنا للوطن. ما بدنا يكون الوطن علينا".
تعرّضت هذه الاحتجاجات للتشكيك في نواياها من طرفين الأول هو المعارضة الخارجية التي خَمَّنَ بعض رموزها أن الإحتجاجات الواردة أعلاه غير صادقة، بل تمّت بإيحاء من المخابرات السورية من أجل تحييد الرئيس الأسد وإلقاء اللوم على الحكومة ومن ثم إقالتها. والطرف الثاني يتصل بالسلطة التي اعتبر بعض أطرافها أن الوطن ليس قارورة غاز حتى يخلع أو يعتمد إن توفر الغاز أو اختفى من الأسواق.
لا يمكن تخوين الأصوات المشار إليها ولا تلك التي لم يرد ذكرها وبخاصة الذين يقيمون في سوريا استناداً الى موقف وطني. فالاحتجاج حق لا يقلّ أهمية عن التضحيات التي قدّمها الشعب السوري دفاعاً عن بلده بمواجهة حملة دولية غير مسبوقة، كانت مُعدّة لافتراس هذا البلد وتدميره حتى تذهب ريحه، والاحتجاج يظلّ حقاً للمُحتجين طالما أنه يقع في الإطار الشرعي للدولة السورية ولا يخدم أعداءها.
تطرح هذه الظاهرة سؤالين كبيرين. الأول يطال الخلط العشوائي بين الوطن واختفاء الغاز أو المازوت من الأسواق أو الانقطاع غير المُبرّر للكهرباء.هل يجوز لمسائل خدماتية من هذا النوع، رغم فداحة تأثيرها على حياة الناس اليومية، هل يجوز رفعها إلى مستوى وطني وبالتالي القول "لم يعد الوطن كما كان في الحكايا" "أو كلنا للوطن ما بدنا يكون الوطن علينا"؟!
إن تنصيب تجّار الغاز الجشعين على قمّة الوطن ينزع عن الإحتجاج طابعه الإجرائي والخدماتي ويحوّله قسراً إلى احتجاج وطني وبالتالي ينقل القضية من مكانها الطبيعي إلى مستوى دولتي، وقد يكون هذا الخلط عفويا أو ناجماً عن مزاج متعكّر أو غضب طارىء لكنه يقود في نهاية المطاف إلى مكان يتعدّى المكان الذي يريد المحتجّون الوصول إليه، ويُتيح للذين يريدون شراً بسوريا فرصة إضافية للنيْل منها كما لاحظنا في كلام معارضي الخارج.
لو كان يجوز اختصار الوطن بالكهرباء وغلاء المعيشة، لما بقي لبنان وطناً على وجه الأرض وشعبه ما زال يعاني من انقطاع الكهرباء بعد مضيّ 30 عاماً على انتهاء الحرب الاهلية. ولما بقي معنىً لشيء في روسيا بعد معاناة الناس من نتائج معركة ستالينغراد خلال الحرب الثانية. ولما بقي معنى للوطن الألماني بعد أن دمّر الحلفاء مدن ألمانيا النازية واغتصبوا مليون إمراة المانية ومات الناس جوعاً وبرداً وعطشاً. ولما بقيت فرنسا وطناً بعد حروب بونابرت وبعد الحرب العالمية الأولى. إن الحرب حمَّالة المآسي والجشع والمافيات في كل مكان وسوريا ليست استثناء.
أتخيّل أن يكون فعل المبالغة الوارد في هذه الاحتجاجات قد إستُخدِمَ للفت أنظار المسؤولين وفي هذه الحال يكون الاستخدام جزءاً من رد فعل وليس تفصيلاً في حملة مستمرة وما دام له غرض محدّد فيجب التعاطي معه بهذه الصفة وليس باعتباره خيانة وطنية. من هنا أدخل إلى السؤال الثاني وهو يتعلّق برد فعل السلطات السورية الرسمية على هذه الإحتجاجات.
يبدو حتى الآن أن الدولة السورية لم تتعاط مع هذه الظاهرة بوصفها حمَّالة تهديد وطني خطير. صحيح أن بعض الموالين للدولة قد ساجلوا المحتجّين بقساوة أحياناً لكن ردود الفعل الرسمية ظلت معتدلة بالقياس لما يمكن توقّعه في ظروف أخرى أو لما كان يمكن أن يتم بالقياس لفترة ما قبل الحرب. وهذا أمر جيّد يُنبيء عن إدراك رسمي بوجوب التعامل مع الاحتجاجات بوصفها إنذارات يدلي بها مواطنون ضاقت بهم السُبل فاطلقوا العنان لأصواتهم بنبرة عالية وبكل أفعال المبالغة والتضخيم.
ما لا يمكن فهمه هو إحجام الدولة عن شرح صعوبات الواقع الخدماتي الناجم عن تدمير ونهب البنية التحتية السورية وتدمير علاقات السوق التي كانت سائدة قبل الحرب وحلّت محلّها شبكات الحرب. ليس لدى الدولة السورية ما تخشاه فشأنها شأن الدول التي تضرّرت جرّاء حروب طاحنة وبالتالي ربما كان من الأفضل أن يتوجّه الرئيس السوري إلى شعبه بخطاب يشرح فيه العقبات التي تجابه المواطنين في بلده ويطلق الأمل بحلول واقعية تُبلسم الجراح بعد تحمّل المدنيين آثار الحرب.
ليس عيباً وليس ضعفاً أن يصارح رأس الدولة شعبه بما هو قائم وبما ينبغي أن يقوم في بلاده. كان جمال عبدالناصر يُخاطب المصريين بلغتهم ويدعوهم إلى شرب 3 مرات شاي بالأسبوع بدل من 7 مرات حتى يتمكّن من مقاومة الضغوط الأجنبية على بلاده. إن الثقة المتبادلة بين ناصر وشعبه لعبت دوراً حاسماً في التصدّي للمخاطر التي تعرّضت لها مصر في عهده.
إن سوريا القوية الواثقة من نفسها والمُنتصرة لا يجوزأان يضيق صدرها باحتجاجات من النوع الذي وقفنا عليه للتوّ ما دام الذين أطلقوها لا يريدون شراً ببلدهم، بل يمكن القول من دون تردّد قد يكون التعبير علناً عن هذه الاحتجاجات وبلسان "النجوم" المُحتجين أفضل بما لا يُقاس من استبطانها ومراكمتها وخروجها من بعد بصيغة من الصيغ القميئة التي درجت خلال الحرب المُدمّرة على سوريا.
ليس الوطن قارورة غاز هذا صحيح لكن الإقامة فيه تحتاج إلى خدمات أساسية وبصورة خاصة إلى المساواة في وصولها إلى المواطنين حين يندر وجودها فيكون الحرمان بالقسط للجميع من دون امتياز لمن لديه سلطة أو واسطة . وتكون الوفرة أيضاً للجميع، أي الذين يفترضون أن الدولة هي سيفهم في الحرب والسلم وكل الأوقات.