عن العدالة والتنمية وعلاقته بالمؤسّسة الملكية في المغرب
وقبل الحكم على تجربه العدالة والتنمية في المغرب لا بدّ من أن نأخذ بعين الاعتبار أن حكومة عبد الإله بنكيران وهي الحكومة الأولى للإسلامين في المغرب جاءت في مرحلة سياسية دقيقة جسّدت تداعيات مرحلة ما بعد ما سُمي "الربيع العربي".
الملكية في المغرب هي نموذج من السلطوية المرنة التي تتيح مجالاً ومُتنفساً في الحياة السياسية بين مجموع الأحزاب ذات المشارب والتوجّهات والمشاريع المختلفة ، بما يضمن لها اللعب وفق القواعد الموضوعة ضمناً من قِبَل المؤسّسة الملكية والتي تهدف بصورة مباشرة إلى تعزيز صلاحيات الملك وتحفظ مصالحه في الدولة والمجتمع.
في سبيل ذلك تعتمد المؤسّسة الملكية مجموعة من الأساليب في ضبط العمل الحزبي والسياسي تتراوح بين الضمّ والإبعاد، وبين الإغراء والإهمال، وبين التشويه والثناء، بغضّ النظر عن خلفيات الأحزاب ومشاريعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية. وهكذا تحافظ المؤسّسة الملكية على التوازنات السياسية الكبرى بين الملك وجميع الأحزاب ، بحيث يبقى الملك الجهة الوحيدة التي تلجأ إليها الأحزاب والقوى المتنافسة داخل الدولة للتوسّط والاحتكام والترجيح حين تتصارع وتتضارب مشاريعها.
الإسلاميون ليسوا استثناء في هذه الإستراتيجية. وقد مرت العلاقة بينهم وبين المؤسّسة الملكية المغربية بمحطات شديدة التقلّب والاهتزاز. فاللعبة السياسية منحت الإسلاميين الإذن في الجلوس على الطاولة كجهة طامحة للعب، إلى جانب لاعبين كثر تحت رعاية الملك ومباركته. فشهد عام 1997 عملية اندماج بين عدد من التيارات والجمعيات الإسلامية إلى جانب شخصيات سياسية مقرّبة من القصر بتأسيس حزب "العدالة والتنمية" ، ما منح الحزب إمكانية الفوز بتسعة مقاعد في الانتخابات التشريعية لذلك العام. إلاّ أنه بعد عام واحد من وصول الملك الحالي إلى السلطة عام 1999، تبدّلت العلاقة مع الإسلاميين ودخلت في مرحلة من الاضطراب. وتوسّعت دائرة التهميش لهم على اختلاف مشاربهم بعد تفجيرات الدار البيضاء عام 2003. ففُرضت عدد من القواعد التي تقيّد مشاركتهم في الانتخابات البلدية والبرلمانية وتأسيس أحزاب مقرّبة من القصر لمنافسة الإسلاميين، وصولاً إلى حلّ حزبيّ الأمّة والبديل الحضاري عام 2009 وإيداع بعض القيادات السجون. كما امتنعت عن الترخيص لأكبر جماعة إسلامية مفترضة هي جماعة العدل والإحسان رغم ذلك كانت حصّة العدالة والتنمية قد ازدادت بارتفاع عدد أعضائها النواب إلى 47 عضواً في انتخابات عام 2007.
ثم جاءت موجات الانتفاضات في العالم العربي التي حملت المؤسّسة الملكية على اعتماد قواعد جديدة في الحياة السياسية. وتحت ضغط الشارع الذي لم يشارك في احتجاجاته حزب العدالة والتنمية خلافاً لنظرائه من قوى المعارضة، تأسّس الدستور الجديد الذي وسّع من دائرة الفضاء السياسي أمام الأحزاب، وحدّ من مساحة تفرّد الملك بإدارة الدولة إلا أن الفصل 47 من الوثيقة الدستورية صيغ بما يتناسب مع إبقاء السلطة بيد الملك وعدم تحوّل الشرعية الانتخابية إلى قوّة مهدّدة لوضعه الدستوري. وهكذا أجريت الانتخابات البرلمانية عام 2011 وفاز العدالة والتنمية ب 107 مقاعد حيث حاز الأغلبية البرلمانية التي مكّنته من تشكيل الحكومة لأول مرة في تاريخ الإسلاميين في المغرب.
وقبل الحكم على تجربه العدالة والتنمية في المغرب لا بدّ من أن نأخذ بعين الاعتبار أن حكومة عبد الإله بنكيران وهي الحكومة الأولى للإسلامين في المغرب جاءت في مرحلة سياسية دقيقة جسّدت تداعيات مرحلة ما بعد ما سُمي "الربيع العربي". فحكومته جاءت في إطار دستوري جديد لم تفعل مواده بعد. كما لم تكن حكومة خالصة من الحزب بل كانت ائتلافاً واسعاً من الأحزاب المختلفة المشارب والولاءات.
وقد عاشت حكومته الثانية أزمة حقيقية استمرت خمسة أشهر وقد تجسّدت بانسحاب حزب الاستقلال من الائتلاف الحكومي في 11 مايو أيار 2013 بهدف التشويش على حزب العدالة والتنمية وإسقاطه ، تأثراً بالسيناريو المصري الذي أسقط الإخوان المسلمين ، إلاّ أن الحزب فوّت الفرصة على مخطط إسقاطه فتعامل ببرغماتية عالية مع القوى السياسية من ناحية، وسعى إلى عدم خلق توتّر بينه وبين المؤسّسة الملكية من ناحية أخرى، محافظاً بالحد الأدنى على التوافق الدائم في القضايا الخلافية.
مكّنت التجربة السياسية لحزب "العدالة والتنمية" تطوير رؤيته الأيديولوجية واكتسابه المزيد من النضج نتيجة التطوّرات السياسية. فاتّجه نحو الواقعية السياسية التي تأطّرت باعتماد رؤية إصلاحية متدرّجة قامت على دخول المعترك السياسي مبكّرا على قاعدة: "الإصلاح المتدرّج مع أولوية الاستقرار السياسي". وقد اتّسمت هذه الإستراتيجية بالدينامية السياسية والاجتماعية من حيث العلاقة مع الحكم التي مرّت بمراحل ما بين التوافق الحَذِر والتنافُر المدروس.
نجاح العدالة والتنمية في البقاء في الحكم كان مُكلفاً على برنامجه الإصلاحي وعلى شعبيته التي تآكلت كما يتضّح من حراك الريف مؤخراً. فقد عجز الحزب خلال وجوده في السلطة عن خلق تغييرات جذرية باجتراح مشروع مجتمعي جديد يتلاءم ويفي بمتطلّبات وتطلّعات الشعب المغاربي، حيث كان مجبوراً دائماً على مسايرة القصر الملكي، كباقي المكوّنات السياسية الأخرى. كما اندفع غصباً عن رغبته نحو إعادة النظر في كثير من شعاراته وأطروحاته، فعدّل برامجه السياسية نائياً بنفسه عن أيّ إزعاج أو تهديد لمصالح الملك المتجذّرة في مؤسّسات الدولة.
وكان الحزب قد وعد خلال برامجه الانتخابية بتحقيق نسبة نمو عالية، وتوفير فرص شغل كبيرة، وتوسّع في الخدمات الاجتماعية، مع الحدّ من الفساد ، إلا أنه فشل في نيل الرّضا الشعبي بعد سبع سنوات من وجوده في السلطة. وبدل أن يقدّم مشروعاً مجتمعياً أفضل مما كان عليه الوضع، سار الحزب في تطبيق توصيات صندوق النقد الدولي غير الشعبية ، الأمر الذي عزّز من ارتهان الاقتصاد إلى قروض المنظمات المالية، وتخلّي الدولة تدريجاً عن توفير الخدمات الاجتماعية للمواطنين، وتآكل الطبقة المتوسّطة وزيادة في الاحتقان الاجتماعي. وقد فشلت الحكومة في محاربه الرشوة وتخليق الحياة العامة.
فهل مسايرة الحزب المؤسّسة الملكية وعدم إغضابها مهما كلّفه الأمر، وعجزه في آن واحد عن تحقيق الوعود التي أوصلته إلى السلطة قد يشكّلا الضربة القاصمة له على المستوى الشعبي داخلياً وعلى نموذجه بين قوى الإسلام السياسي في المنطقة؟