بسام الشكعة .. الشهيد الحيّ
بسام الشكعة رئيس بلدية نابلس وكريم خلف رئيس بلدية رام الله وإبراهيم الطويل رئيس بلدية البيرة، كانوا هدفاً لاعتداءٍ إسرائيلي مُدبَّرٍ من قادة المشروع الاستيطاني في حزيران 1980، استهدفهم كلاً على حِدة وأسفر عن بتر ساقي الشكعة وساق خلف، لدورهم في مقاومة المشروع الاستيطاني التوسّعي على الأرض الفلسطينية.
كم كنا صِغاراً حينئذ وكم كانوا كِباراً..
كانت جراحهم أكبر من أن يتَّسع لها إدراك طفل يسمع نشرة الأخبار مُجبراً من إذاعة مونت كارلو في معيّة أبيه ويستشعر شيئاً من آلامهم من الجو المشدود في البيت ومن التعليقات والنقاشات التي تدور حوله.
بسام الشكعة رئيس بلدية نابلس وكريم خلف رئيس بلدية رام الله وإبراهيم الطويل رئيس بلدية البيرة، كانوا هدفاً لاعتداءٍ إسرائيلي مُدبَّرٍ من قادة المشروع الاستيطاني في حزيران 1980، استهدفهم كلاً على حِدة وأسفر عن بتر ساقي الشكعة وساق خلف، لدورهم في مقاومة المشروع الاستيطاني التوسّعي على الأرض الفلسطينية.
كنت في العاشرة من عُمري، ولم أكن أعي بما يكفي حقيقة ما جرى، لكني أذكر كيف هبّ أبناء الأرض المحتلة في تظاهراتٍ ومواجهاتٍ مع جيش الاحتلال في كافة أرجاء فلسطين، احتجاجاً على هذه الجريمة.
وأنقل ما رواه الزميل الصحافي المرحوم عاطف سعد الذي كان في حينه طالباً في جامعة النجاح الوطنية عن حادثة تفجير سيارة المُناضل بسام الشكعة قبل أربعة عقود:
في صباح يوم الثاني من حزيران 1980، دوَّى صوتُ انفجارٍ سمعه عديد من طلبة جامعة النجاح ممَن تواجدوا في الحَرَم الجامعي! هَرَعَ الطلاب من صفوفهم. تنادى النُشطاء وأعضاء اللجان الطلابية لمعرفة طبيعة الانفجار؟ أين وقع؟ ومَن يستهدف؟
ارتفع صوتٌ مُرتِعش تبعته أصوات هَدَرَت، " الشكعة هو المُستهدَف! استشهد قرب منزله! انفجرت قنبلة في سيارته!"
انتشر بين الجموع نبأ صادِم أفاد بأن رئيسي بلديتيّ رام الله (كريم خلف) والبيرة (إبراهيم الطويل) تعرّضا لاعتداءٍ إرهابي مُماثِل. ثم وصل نبأ خفَّف من وَقْعِ الصدمة الثانية، "الشكعة لم يمت! إنه مُصابٌ بجروحٍ خطيرةٍ ويُعالَج في مشفى رفيديا! يا شباب يالله ع المشفى لنتبرَّع بالدم..!" توجَّه شباب وصبايا الجامعة إلى المشفى. تحوَّل المشهد بصورةٍ دراماتيكيةٍ ليصبح على شكل صفوف اصطفَّ بها أُناسٌ غاضبون أطلقوا من حناجرهم هُتافات شقَّت عنان السماء،.." بالروح.. بالدم .. نفديك يا بسام." و"بالروح .. بالدم نفديك يا فلسطين.!"
منطقة المشفى كانت مُكتظَّة بالناس الغاضِبين! وفي أروقتها الداخلية انتشرت معلومة لم تتأكَّد لاحِقاً، أفادت بأن الحاكِم العسكري في المدينة يُريد دخول المشفى للإطمئنان على حياة الشكعة؟" أية وقاحة؟ لا فَرْق بين عصابات التنظيم الإرهابي اليهودي والاحتلال العسكري. "لا .. لا لن يدخل"، هتفت أصوات كثيرة.
ارتصَّ درج المشفى بأجسام الغاضبين. اصطفّوا ليشكّلوا حاجِزاً بشرياً يحول من دون دخول الحاكِم العسكري. وانطلق صوتٌ هادِرٌ يصرخ "الفاشية لن تمر .. لن تمر..!" تلاه صوت آخر "برَّه برَّه ... المحتل يطلع برَّه!"
انتظرت الجموع ساعات وساعات نتيجة إجراء العملية الجراحية. وبرغم الألم الذي نجم عن نبأ بتر الساقين للمناضل الشكعة ، فإن ما كان الناس يأملون به أنه حيّ وسيواصل العيش. وهذا ما تحقَّق وهذا ما أسعدَهم. والأهم أن أولى الكلمات التي نطقَ بها الشكعة ، بعد أن عَلِمَ ببترِ ساقيه، " لقد زرعوني بالأرض التي أُحبّها"! وكانت هذه الكلمات المُفعَمة بالتحدّي والاستعداد اللا مُتناهي للعطاء، هي التي انتشرت أكثر من غيرها على ألسنة الناس وفي وسائل الإعلام. ولاحقاً اقتبسنا تعبير "الشهيد الحيّ" عن المُناضِلة اليهودية التقدّمية المحامية فيليتسيا لانجر الذي أطلقته على بسام الشكعة.
عندما دعته الحكومة البريطانية لاستكمال علاجه في لندن، في مطلع الثمانينات وكانت زوجته أمّ نضال ترافقه. كان موقف الحكومة البريطانية كمعظم الدول الغربية آنذاك في عدم الاتصال الرسمي المباشر مع منظّمة التحرير الفلسطينية، بحجَّة أنها "منظّمة إرهابية"، لكن موقف بسام وفي حديثة مع وزير الخارجية البريطانية للشؤون الأوروبية آنذاك، دوغلاس هيرد الذي زاره في المستشفى كان جلياً وواضحاً بأن منظّمة التحرير هي المُمَثّل والعنوان للشعب الفلسطيني، رغم ما لديه من انتقادات وملاحظات كان لا يتردَّد في الإفصاح عنها.
تسعة وثلاثون عاماً مرّت على محاولة اغتيال بسام الشكعة ورفاقه رؤساء البلديات، اتخذ خلالها منحى سياسياً مُعارِضاً لاية مشاريع تسوية مع إسرائيل، وقد تجلَّى ذلك بإعلان مُعارضته الشديدة لاتفاق أوسلو الذي وقَّعته منظّمة التحرير الفلسطينية في العام 1993، وكان جزءاً أصيلاً من حال الاختلاف في الساحة الفلسطينية التي تختلف في النهج لكنها لا تختلف على فلسطين، وظلّ حتى النَفَس الأخير مؤمِناً بعدالة قضية شعبه، وشرعية مقاومته حتى انتزاع حقوقه الوطنية. ظلّ مؤمِناً أن جوهر الصراع هو الأرض التي أودَعها ساقيه مُناضلاً وقائداً، لتحتضن جسده بعد أربعة عقود.
رحمك الله يا أبا نضال