التطبيع المصري

إنّ الرضا الإسرائيلي عن العلاقات مع مصر يؤكّد أهمية هذه العلاقات بالنسبة إلى "تل أبيب"، التي تراها ركيزة للاستقرار، ومقدّمة لمنفعة سياسية للاحتلال.

من اللقاء الذي جمع بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس وزراء الاحتلال الاسرائيلي بنيامين نتنياهو في الأمم المتحدة عام 2018 / أ.ف.ب

في إطار الاحتفالات المصرية بالذكرى الـ67 لثورة يوليو، أقام السفير المصري خالد عزمي حفل استقبال في منزله بـ"تل أبيب" في 10/7/2019، وكانت لافِتة مشاركة نتنياهو في حفل الاستقبال وتصريحه أنّ "الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي صديقي العزيز، وفي لقاءاتي معه فوجئت بحكمته وذكائه وشجاعته"، مشيراً إلى أنّ "السلام بين إسرائيل ومصر حجر الزاوية للاستقرار". وتُبيّن مشاركة نتنياهو في الحفل وتصريحاته، الحرص الإسرائيلي على العلاقات المصرية الإسرائيلية، وأهمية هذه العلاقات بالنسبة إلى دولة الاحتلال في تحقيق "الاستقرار"، تحديداً من ناحية سيناء ومعبر رفح. وإذا ما لحظنا مشاركة مصر في الحصار الذي يفرضه الاحتلال على قطاع غزَّة منذ عام 2007 يمكن أن نفهم معنى الاستقرار كما ورد في تصريح نتنياهو.

منذ معاهدة السلام مع دولة الاحتلال عام 1979، لم تعد مصر معنية بالصراع العربي الإسرائيلي إلّا بالقدر اللازم لما تقتضيه المصلحة الإسرائيلية، والإملاءات الأميركية التي تفرض على مصر لتحصل هذه الأخيرة على ما يُسمَّى بالمُساعدات، وهي مُساعدات تُعمِّق الارتهان المصري لواشنطن، و"التعاون" المصري مع "تل أبيب". ويمكن هذه المُعطيات أن تفسّر استمرار التطبيع بين مصر ودولة الاحتلال على الرغم من تصاعُد اعتداءات هذه الأخيرة على الفلسطينيين، وتنكّرها لأيٍّ من حقوقهم، وحملتها لتصفية القضية الفلسطينية، واستمرار التهويد في القدس والاعتداءات على المسجد الأقصى. وكان السيسي قد قال في مقابلة مع قناة CBS الأميركية بُّثت في كانون الثاني/يناير 2019، إنّ "العلاقة مع إسرائيل هي الآن الأمتن منذ بدئها، وهي تشمل كلّ المجالات".

ومن تجلّيات هذه العلاقة، الدور الذي تلعبه القاهرة في ما يتعلق بقطاع غزَّة، حيث تبدو حريصة على عدم تدهور الأمور في القطاع المُحاصَر، وتعمل على إتمام ملف التهدئة بين حماس ودولة الاحتلال، خوفًا من انفجار الوضع الأمني في القطاع، وهو الأمر الذي تعمل القاهرة و"تل أبيب" على تجنّبه. ومن تجليّاتها أيضاً، زيارة وفد كنَسي إلى القدس المحتلة في تشرين الثاني/نوفمبر 2018، عن طريق "تل أبيب"، بعد نشوب أزمة دير السلطان في البلدة القديمة للوقوف على الأزمة ومحاولة الحصول على إذن من الاحتلال لترميم الدير المُعرّضة بعض أجزائه للسقوط. وأتت الزيارة بخلاف قرار المقاطعة الكنسية وتحريم زيارة القدس قبل تحريرها، لحلّ الأزمة التي نشأت على خلفية اعتداء عناصر من الاحتلال على أحد الرهبان المصريّين في دير السلطان في 24/10/2018، في أثناء مشاركته في وقفة احتجاجية نظّمتها بطريركية الأقباط الأرثوذكس في القدس القديمة احتجاجاً على رفض حكومة الاحتلال قيام الكنيسة القبطيّة بأعمال الترميم داخل دير السلطان القبطي، فيما تتولّى حكومة الاحتلال هذه الأعمال داخل الدير لمصلحة الأحباش من دون موافقة الكنيسة القبطية.

ومن التجليات الأخرى استمرار التطبيع الاقتصادي بين الجانبين، وهو قائم بشكل أساسي على التطبيع في حقل الغاز. فقد اشترت شركة ديلك للتنقيب الإسرائيلية حصّة من شركة غاز شرق المتوسّط المصرية EMG التي تملك أنبوب الغاز الممتد من "إسرائيل" إلى سيناء، وقد بلغت قيمة الصفقة 15 مليار دولار، وشاركت فيها شركة نوبل إنرجي الأميركية. وبموجب الصفقة، سيكون لديلك ونوبل إنرجي (والشركتان تطوّران حقول الغاز الإسرائيلية) حقّ تشغيل خطّ الغاز الطبيعي لشركة غاز شرق المتوسّط EMG على مدى 10 سنوات، في حين أنّ مصر كانت تمدّ إسرائيل بالغاز الطبيعي في السنوات السابقة. وقد وصفت شركة ديلك الصفقة بأنها من أهم المحطات التي شهدها سوق الغاز الطبيعي الإسرائيلي منذ اكتشافه. وستستورد مصر حوالى 100 مليون قدم مكعبة في اليوم من الغاز الفلسطيني الذي يسرقه الاحتلال في الربع الأول من 2019 وسترتفع الكمية تدريجاً إلى 700 مليون قدم، والشركة وإن كانت خاصة، إلا أنّ الصفقة ليست خارج رضا الحكومة، فوفق وزير البترول المصري يمكن القطاع الخاص استيراد الغاز الإسرائيلي شرط موافقة الحكومة، وأن يحقّق الغاز المستورد قيمة مُضافة للاقتصاد المصري، وتسوية قضية التحكيم بين البلدين.

وفي الوقت ذاته، تتحضّر دولة الاحتلال لتكون جزءاً من منتدى غاز الشرق الأوسط الذي سيكون مقرّه مصر، وسيضمّ إيطاليا وقبرص واليونان، ومصر والأردن، إضافة إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والسلطة الفلسطينية. "إنجازات" الاحتلال هذه عكس أهمّيتها بالنسبة إلى دولة الاحتلال نتنياهو الذي قال إنّ الغاز "عنصر حاسم في العظمة الاستراتيجية لدولة إسرائيل"، فيما صرّح شتاينتس وزير الطاقة في 14/1/2019 أنّ "التعاون لا يتعلّق بمنفعة اقتصادية مرتبطة بتطوير مجتمعات الغاز، بل بمنفعة جيوسياسية وسياسية. في الواقع، المسألة تتعلّق بالتعاون الاقتصادي الأهم بين إسرائيل ومصر منذ التوقيع على اتفاقية السلام بين الدولتين".

ولعلّ سياقات هذه التطبيع تجلّت أخيراً في مشاركة مصر في ورشة البحرين، التي عُقِدَت في المنامة في 25-26/6/2019، بدعوة من البيت الأبيض، لتكون الشق الاقتصادي من صفقة القرن، أو الخطة الأميركية الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية. ومن الممكن القول إنّ الرضا الإسرائيلي عن العلاقات مع مصر يؤكّد أهمية هذه العلاقات بالنسبة إلى "تل أبيب"، التي تراها ركيزة للاستقرار، ومقدّمة لمنفعة سياسية للاحتلال، إذ يعزّز الوجود الإسرائيلي في المنطقة ويجعلها تبدو كياناً طبيعياً بعدما باتت مروحة الدول العربية التي تصنِّف "إسرائيل" كعدو تتقلّص، لا سيما مع التصريحات والمواقف الصادرة عن غير دولة من دول الخليج العربي.