ورشة المنامة: محاولات دَفع القضية الفلسطينية للتقاعُد السياسي
كشفت ورشة المنامة "السلام من أجل الازدهار" والتي عُقِدَت في الخامس والعشرين من شهر حزيران/يونيو الماضي بحضور، العديد من الوفود العربية برفقة الوفد الإسرائيلي والإدارة الأميركية بقيادة كوشنير، مُنظّم الورشة، عن خباياها وأزاحت اللثام عن جوهر المُقاربة الأميركية الجديدة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. تلك المُقاربة تقوم على تأبيد الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية بشكل غير قابل للتراجع بما يعني القبول الفلسطيني بالهزيمة وأبدية الاستعمار، والقبول بفكرة عدم إرجاع عجلة الزمان ألى الوراء، مُقاربة هدفها الرئيس إحالة القضية الفلسطينية للتقاعُد السياسي.
مُقاربة تقوم على استبدال مفاهيمي للحقوق الوطنية الفلسطينية، فالحياة الكريمة والاقتصاد المُنتعش والحق في الصحّة والتعليم التي نصّ عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي جزء كبير منها واجبات ومسؤولية سلطة الاحتلال تجاه السكان الواقعين تحت الاحتلال، جاءت لتحلّ مكان الحق في تقرير المصير، وعودة اللاجئين، وإنهاء احتلالها، وإقامة الدولة الفلسطينية عاصمتها القدس، وكافة الحقوق السياسية الأخرى.
مُقاربة تقوم على التوجّه للشعب الذي يعاني على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والغذائي والصحّي من تأثير الاحتلال والحصار عبر تجاوز نُخَبه الوطنية وقيادته السياسية، سواء سلطة أو فصائل، من خلال استحضار التاريخ القريب لفكرة روابط القرى، والقيادات المحلية، التي تقبل بكل ما يُطرَح من عطايا الإدارة الأميركية. تحاول الإدارة الأميركية على اللعب بورقة خلق الفجوة ما بين القيادات الفلسطينية والشعب الفلسطيني عبر شعار الفساد والحوكَمة كما جاء في تصريحات كوشنير ورفاقه، وهو ما لا يمكن إنكاره فلسطينياً، ولكن تلك الإدارة ساهمت بنفسها في تفشّيه.
الملفت للنظر أن تلك المُقاربة لم تأت بجديد، بل هي تجميع لمبادرات أميركية وإسرائيلية سابقة طُرِحت في سنوات ماضية، وهي تجمع ما بين رؤية كسينجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق الذي كان قد طرح فكرة التوطين للاجئين الفلسطينيين في الدول العربية، وما طرحه مناحيم بيغين رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بمنح الفلسطينيين حكماً ذاتياً محدوداً في الأراضي الفلسطينية لا يتجاوز في معناه السياسي البُعد الإداري للفلسطينيبن في إدارة شؤون حياتهم. وأيضاً ما جاء في رؤية نتنياهو رئيس الوزراء الحالي في كتابه مكان في الشمس في تسعينات القرن الماضي حول السلام الاقتصادي، ورؤية شمعون بيريز من قبل حول " شرق أوسط جديد".
ما قدّمته ورشة المنامة من رؤية اقتصادية للحل عبر مشاريع البنية التحتية وتحسين قطاعيّ الصحّة والتعليم، أبعدت بشكل مُتعمّد أيّ مشروع اقتصادي له صبغة سيادية للفلسطينيين، كإنشاء مطار أو ميناء. بل أبقت الفلسطيني مرهوناً بغيره في هذا الجانب من خلال الاعتماد على جيرانه العرب. وهذا ما يؤكّد أن المُقاربة الأميركية في بُعدها الاقتصادي، تؤسّس إلى محلية فلسطينية لا ترتقي بأية حال من الأحوال إلى كيانية فلسطينية حقيقية.
حملت المشاركة العربية في ورشة المنامة، كل دلالات التراجع والانهيار العربي، الذي بات عاجزاً حتى عن الشجب والإدانة بحيث ظهر المشاركون من الدول العربية، حتى وإن كانوا رجال أعمال، بلا رؤية وطنية أو قومية. كانوا أشبه "بالعبيد" مبهورين "بالسيّد الأبيض" الذي يوجّه لهم الرؤية والآليات لإنجاز هذا الابتكار الأميركي الذي تأخّر كثيراً.
حضور العرب لم يخطّط له أن يكونوا شاهدين فقط أو أصحاب رأي، بل بالعكس، كان الهدف من الحضور العربي التمويل وتحمّل التكلفة عن الاحتلال وتبعات إدامته وهزيمة الفلسطيني. فتلك مسؤولية أراد مهندسو الورشة تلزيمها عربياً، سواء مالياً أو مفاهيماً. المطلوب الآن، ومن أجل تمرير ذلك أن تنطلق عمليات البرمَجة العقلية للمواطن العربي عامة والفلسطيني خاصة للقبول بما يُطرَح خوفاً من الندَم من عدم استغلال الفُرَص التي طُرِحت في السابق. وما جاء ضمنياً في تصريحات وزير الخارجية البحريني مع التلفزيون الإسرائيلي الذي اعتبر أن اليهود جزء من تراث المنطقة، أو ما اعتدنا عليه في الفترة الأخيرة من تصريحات مشوّهة يطلقها بعض الصحافيين العرب ضد الشعب الفلسطيني وتاريخه وتتبنّى في طرحها الرؤية الإسرائيلية، يتوافق مع تصريحات سفير إسرائيل في الأمم المتحدة داني دانون الذي دعا إلى استسلام الفلسطينيين والإذعان.
الموقف الذي يستدعي بكل الأحوال البناء عليه لبناء استراتيجية فلسطينية ضمن برنامج وطني متّفق عليه لمواجهة محاولات التصفية للحقوق الفلسطينية هو الحال الفلسطينية التي شهدت ولأول مرة منذ أوسلو موقفاً موحّداً رافِضاً لورشة المنامة ومخرجاتها. وهذا يتطلّب الخروج بسرعة من مربع الشجب والإدانة والرفض، ومربع الانتظار للموجة الثالثة من المُقاربة الأميركية لإدامة الاحتلال، إلى مربع الفعل الوطني الذي تبدأ أولى خطواته الحقيقة بإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني على قاعدة الشراكة الوطنية وإنهاء الانقسام، الذي شكّل ولا يزال مدخلاً للاستفراد بالكل الوطني والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. أما الخطوة الثانية فيجب أن تسارع تجاه استعادة النضال الشعبي في كافة المواقع، واستعادة ثقافة الاشتباك مع الاحتلال على المستوى الشعبي والنخبوي، الميداني والقانوني والدبلوماسي، واستثمار حال التوافق الوطني لكل الجماهير الفلسطينية في سبيل استعادة اللحمة الوطنية.
أما على المستوى العربي فلقد بات ضرورياً مخاطبة المواطن العربي بشكل مباشر، لأن ما حدث كشف لنا جميعاً تقدّم الشعوب العربية على أنظمتها. فما شهدته تظاهرة الشعب العراقي أمام سفارة البحرين في بغداد يؤكّد لنا أن القضية الفلسطينية لا تزال حاضرة في وجدان كل عربي، رغم حال الضعف والهوان والتراجع التي باتت عنواناً للنظام العربي الرسمي.
ختاماً حَضَرني خلال متابعة مقابلة وزير خارجية البحرين مع التلفزة الإسرائيلية، ما قاله محمود درويش مُخاطباً العرب وقت الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982"هل نستطيع الموت في ميلادنا الكحلي؟ أم نحتل مئذنة ونعلن في القبائل أن يثرب أجرت قرآنها ليهود خيبر".