أسرار القوّة الإيرانية

أثبت الصراع الأخير الذي جرى بين أميركا وإيران أن الأخيرة قوية بما فيه الكفاية لتواجه أكبر غطرسة عرفها التاريخ الأميركي في العصر الحديث، والتي حاولت أن تستعمل كل وسائل التهديد السياسية والاقتصادية والعسكرية، لكنها لم تؤت أكلها جميعاً.

هذا ما يدعو إلى التساؤل عن سر القوّة الإيرانية التي أتاحت لهم الوقوف بمثل هذه المواقف التي يندر أن نجد مثلها، والتي جعلت البعض ـ نتيجة لصعوبة تصديق ما يراه ـ يتوهّم أن هناك اتفاقات خفيّة بين أميركا وإيران لتمثل هذا الدور، لابتزاز العرب.

ولعلّ أبعد الأجوبة وأكثرها سطحية اعتبار الصواريخ البالستية الإيرانية، وما صحبها من تطوّر عسكري هو السبب في ذلك.. ذلك أنه مع أهمية تلك الصواريخ وغيرها، إلا أنها لا يمكنها أن تمنع الأميركي أو أية قوة استعمارية من مواجهتها بأسلحة أكثر تطوّراً.

ولهذا نرى أن السبب الحقيقي يكمن في قوتين كبيرتين، لا يمكن لأميركا، بل للعالم جميعاً مواجهتها، وهي: قوّة القيادة الإيرانية، وقوّة الشعب الذي تحكمه.

أما قوّة القيادة الإيرانية، فتكمن في تلك العقائدية الإيمانية والثورية التي تتحلّى بها، والتي جعلتها تحافظ طوال أربعين سنة على مبادئها جميعاً، ولا تنزاح عنها قيد أنملة، على الرغم من كل أنواع التهديدات والإغراءات التي تعرّضت لها حتى تتخلّى عن مبادئها وقِيَمها التي انطلقت منها.

فعند المقارنة بين خطب قائدي الثورة الإسلامية ومرشديها الإمام الخميني والإمام  الخامنئي نجد نفس اللغة ونفس الأفكار ونفس النفَس الثوري، وكأن الثورة تتجدّد كل يوم، بل تتصاعد في كل لحظة لتحقيق أهدافها الكبرى التي لا تكتفي بتحرير إيران من كل أشكال الهيمنة، وإنما تحرير كل المُستضعفين والوقوف في وجه كل المُستكبرين.

وهكذا نجد جميع القيادات الإيرانية من السياسيين والعسكريين وغيرهم من النخب الفكرية والثقافية والإعلامية، كلهم يعيشون أفكار الثورة وأحلامها وقِيَمها التي نشرها فيهم الإمام الخميني الذي لا يزال حاضراً بينهم، وكأنه لم يرحل عنهم.

وقد اكتشف الشعب الإيراني في هذه القيادات صدقها وإخلاصها وتضحيتها، فهي تعيش مثلهم، وبالبساطة التي يعيشونها، ولذلك لم يؤثر الحصار الطويل في نفسياتهم، لعلمهم أنهم مع قياداتهم جميعاً يعيشون نفس الحياة، وبنفس الأحلام والطموحات.

ومما زاد من ثقة الشعب الإيراني في قياداته ذلك التنوّع الموجود فيها، والذي أتاح لكل أفراد الشعب الفرص الكثيرة التي تتيح لهم ممارسة أنواع القيادة المختلفة، بشرط توافر الكفاءة والنزاهة والخبرة.

وهو ما جعل الإيرانيين جميعاً قيادة وشعباً شخصاً واحداً ممتلئاً بالقوّة، وهذا ما لم يستطع الأعداء مواجهته، لأنهم ينطلقون في العادة من الصراع بين الشعب والنظام لتمرير مشاريعهم، مثلما حصل في العراق عندما دخلوا إليها بسهولة بسبب تلك الهوّة السحيقة بين القيادة العراقية وشعبها.

أما القوّة الثانية، فهي قوّة الشعب الإيراني، فهو مع تنوّعه الشديد، ومنذ قديم الزمان، إلا أننا نجد تلاحماً شديداً وغريباً بين تلك الأطياف العرقية والدينية المشكّلة له، فالفرس والأتراك الأذريون والتركمان والكرد والعرب والبلوش والأرمن واليهود والكزخ والجورجيون والجيلك والتالش والمازني والآشوريون والقشقايون، وغيرهم جميعاً يشكّلون فسيفساء رائعة لا تختلف عن تلك الصوَر الجميلة التي يزدهي بها السجاد الإيراني.

وعلى الرغم من محاولات الأعداء استغلال هذه الإثنيات إلا أنهم فشلوا في ذلك، ووجدوا جميع الشعب الإيراني حتى اليهود منهم، يحترم بعضهم بعضاً، ولا يكتفون بذلك، وإنما يرجعون فضل ذلك التعايش السلمي، إلى القيادة الإيرانية التي أعطت أحسن النماذج في التعامُل اللطيف والمتوازِن مع تلك الأطياف جميعاً.

ولا تتوقّف قوّة الشعب الإيراني في وحدته، وإنما تُضاف إليها تلك الأنفة والشهامة والكرامة التي جعلته يخرج في كل المواقف التي تستدعي خروجه إلى الشارع ليثبت للعالم أجمع أنه يقف وراء قيادته، وبملء إرادته، وأن تجويعه أو حصاره أو حربه لن يجدي معه شيئاً.

بل إن ذلك الحصار والتجويع أخرج الإيرانيين من الكسل الذي يجلبه الترف، كما عبّر جمال الدين الأسدأبادي [الأفغاني] بقوله: (الأزمة تلد الهمّة، ولا يتّسع الأمر إلا إذا ضاق)، حيث تفتّق العقل الإيراني عن كل أنواع الاختراع التي تتيح له أن يعيش الحياة الهنيئة مع الحصار المفروض، في ظل [الاقتصاد المُمانَع]، وهو ما جعله ينجح في أكثر الصناعات تعقيداً، سواء تلك المرتبطة بحياته العادية، أو بالجوانب العسكرية.

وذلك كله ما جعل من كل فرد من الشعب الإيراني قنبلة موقوتة، يحسب لها الأعداء كل أنواع الحساب، ذلك أنها يمكن أن تنفجر في أية لحظة، وفي وجه أي عدو يمكنه أن يقترب منها، وذلك على خلاف تلك الشعوب التي استقبلت مستعمريها بالورود لتخليصهم من المستبد الذي يحكمهم.

هذه هي الصواريخ البالستية الحقيقية التي جعلت إيران في قلاع وحصون منيعة يصعب دكّها أو اختراقها، وهو ما جعل الأعداء يتوجّهون للحرب الناعمة بدل الحرب الصلبة، لكنهم فوجئوا بالقيادة الإيرانية تسبقهم إلى الحديث عنها، والتحذير منها، ووضع الخطط لمواجهتها، وهو ما تمّ بالفعل، فقد عجزت كل آلات الحرب الناعمة في اختراق الشعب الإيراني، كما فشلت قبلها ومعها الحرب الصلبة بكل أنواعها.