التهديد لإيران والهدف فلسطين

وما جعل الأمور أمام الأميركيين أكثر تعقيداً أن الثورة الإيرانية استغلّت كل ثانية من التعامل الحَذِر مع واشنطن لمُراكمة المزيد من القوّة العسكرية، وتحديداً في المجال الصاروخي بحيث أصبحت تمتلك برنامجاً صاروخياً هو الأكثر تطوّراً في الشرق الأوسط، كما تمكَّنت بنفس الذكاء والحِنكة من تحويل حزب الله اللبناني إلى قوّة عسكرية ضارِبة يحسب لها الإسرائيليون مليون حساب

تحاول الدوائر المُعادية منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 بقيادة الإمام الخميني رحمه الله بشتّى الوسائل والطُرق لإسقاط هذه الثورة المُظفّرة، لأنها رأت منذ البداية أن الخطر الذي ستشكّله هذه الثورة من خلال قوّة مثالها وتأثيرها المُلهٍم سيتعدّى النطاق الإيراني ليشمل عموم المنطقة، سيشكّل خطراً ماحِقاً على أهم ثلاث ركائز استراتيجية لسياسة أميركا في المنطقة، وهي على التوالي إسرائيل والنفط والأنظمة الموالية لأميركا في منطقة الخليج بشكل خاص والشرق الأوسط بشكل عام. 
فهذه الثورة أعلنت منذ اليوم الأول لانتصارنا عداءها المُطلَق لإسرائيل، ورفعت شعارها المزدوج (الموت لأميركا الموت لإسرائيل)، وإنجازات بالأفعال وليس بالأقوال فقط لمظلوميّة الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، وواقعة تسليم السفارة الإسرائيلية في طهران بعد طرد السفير الإسرائيلي منها للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وتحويلها إلى سفارة لفلسطين معروفة، وحرّرت النفط الإيراني من براثن الابتكارات الأميركية ومتعدّدة الجنسيات وشكّلت تهديداً من خلال نموذجها المُلهِم للأنظمة العميلة لواشنطن في عموم المنطقة.
ولكن لا يعرف أهمية إيران لأميركا ومصالحها في المنطقة في عهد شاه إيران محمّد رضا بهلوي وبالتالي الخطر الذي شكّله انتصار الثورة الإيرانية عليه وإطاحته، تكفي الإشارة إلى أن طهران في عهده كانت هي العاصمة التي تضمّ مقار الأحلاف العدوانية التي أقامتها واشنطن في المنطقة لمواجهة المدّ القومي العربي وما سُمّي حينها بالخطر السوفياتي والشيوعي المزعومين (مختلف) بغداد مثلاً ناهيك عن أنها كانت وكراً لعمليات التخريب وتنظيم المؤامرات التي تقوم بتنظيمها وكالة المخابرات الأميركية (سي.آي.إيه) للإطاحة بالأنظمة التقدمية في المنطقة. ومحاربة حركات التحرّر الوطني والاجتماعي المُعادية للامبريالية والصهيونية.
وكانت أولى المحاولات الجدية الهادفة لإسقاط الثورة الإيرانية قد تمثلت بتوريط البلدين الجارين إيران والعراق في حربٍ مُدمِّرة استمرت لمدّة ثماني سنوات للخلاص من دولتين كانتا بالنسبة إلى واشنطن تشكّلان خطراً جدياً على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة وهما إسرائيل والنفط.
ولما فشلت تلك المحاولة بوقف إطلاق النار بين البلدين عام 1988 كان لا بد من دخول أميركي مباشر على الخط للخلاص من الخطر العراقي أولاً، وهذا ما تمّ بواسطة حربين مُدمّرتين الأولى عام 1991 والثانية عام 2003 وما نجم عنها من احتلال لهذا البلد العربي وبقيّة القصة المعروفة، ليجري في ما بعد التفرّغ لتنظيم المؤامرات ضد إيران على اعتبار أن عملية إسقاط ثورتها أصعب وتحتاج إلى وقت أكبر. 
ولكن الأميركيين فوجئوا بأن تعامل حكومات الثورة الإيرانية المُتعاقبة في ظل توجيهات المرشد الأعلى علي خامينائي بأناة وذكاء شديدين وصبر استراتيجي منقطع النظير، وبعدم توفير ذرائع ومبرّرات تتيح لهم الانقضاض بسهولة ويُسر على إيران كما حصل مع العراق الذي تمّ توريطه باحتلال الكويت في 2 آب عام 1990 من القرن الماضي، قد فوَّت عليهم الفرصة للقضاء على الثورة الإيرانية بواسطة عمل عسكري من الخارج.
وما جعل الأمور أمام الأميركيين أكثر تعقيداً أن الثورة الإيرانية استغلّت كل ثانية من التعامل الحَذِر مع واشنطن لمُراكمة المزيد من القوّة العسكرية، وتحديداً في المجال الصاروخي بحيث أصبحت تمتلك برنامجاً صاروخياً هو الأكثر تطوّراً في الشرق الأوسط، كما تمكَّنت بنفس الذكاء والحِنكة من تحويل حزب الله اللبناني إلى قوّة عسكرية ضارِبة يحسب لها الإسرائيليون مليون حساب، ونقلت تكنولوجيا تصنيع الصواريخ إلى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة المُحاصَر، وفوق ذلك فقد ساندت المقاومة العراقية التي تمكَّنت من طرد الأميركيين من العراق إلى أن عادوا نسبياً بذريعة محاربة داعش، وكانت القشّة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة لأميركا وحلفائها في المنطقة هو التدخّل العسكري الإيراني في سوريا، حيث أدّى ذلك التدخّل إلى جانب تدخّل حزب الله اللبناني، ثم التدخّل العسكري الروسي إلى إفشال المشروع الأميركي الصهيوني السعودي الهادِف إلى إسقاط الدولة السورية وتهيئة الأجواء الاقليمية والدولية لإقامة نظام دولي جديد مُتعدِّد الأقطاب على أنقاض نظام القطب الواحد الذي أقامته أميركا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق عام 1992 من القرن الماضي.
وباختصار يمكن القول بأن توقيع إيران، لاتفاق خمسة + واحد أو ما عُرِف بالاتفاق النووي قد فوَّت هو الآخر على الولايات المتحدة الأميركية فرصة كان يمكن أن تستغلّها لتوجيه ضربة عسكرية لإيران في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، الأمر الذي صعَّب على خليفته دونالد ترامب توجيه مثل هذه الضربة بعد وصوله إلى المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، وانسحابه من الاتفاق النووي لعدّة أسباب ، لعلّ من أبرزها الخشية من أن يؤدّي توجيه ضربة أميركية لإيران إلى توجيه ضربة ماحِقة لإسرائيل تشكّل خطراً وجودياً عليها وعلى القواعد العسكرية الأميركية في منطقة الخليج والشرق الأوسط، وهذا ما لا تريده واشنطن حرصاً على طفلتها المُدلّلة إسرائيل. 
ولذلك فإنني أستبعد بأن يكون تصاعُد التوتّر بهذا الشكل غير المسبوق هو مقدِّمة لاندلاع حرب بين إيران والولايات المتحدة، رغم تلك التصريحات غير المسؤولة التي تنطلق من مُتصهيني الإدارة الأميركية وفي مقدمهم مستشار الأمن القومي جون بولتون ووزير الخارجية الأميركي جورج
بومبيو.
بمعنى آخر فإنني أميل للاعتقاد بأن ميزان القوى العسكري الإقليمي في المنطقة الذي لم يعد يميل لمصلحة أميركا وإسرائيل، مضافاً إليه الموقف الروسي والصيني الرافض لتوجيه ضربة عسكرية أميركية لإيران، والخطر الذي سيشكّله اندلاع حرب إقليمية شاملة في المنطقة على القوات الروسية الموجودة في سوريا وفي البحر المتوسّط وجواره، والحنكة الإيرانية في مواجهة العربَدة الأميركية كلها عوامل سوف تمنع اندلاع الحرب.
وعليه فإنني أعتقد بأن تحشيد أميركا لأساطيلها وحاملات طائراتها في المتوسّط والخليج، وإرسال القاذفات الاستراتيجية الأميركية من طراز ب-52 إلى قاعدة العديد في قطر، وإيصال الأمور إلى سياسة حافّة الهاوية وكأن الأمور ذاهبة نحو الحرب لا محالة، ما هي إلا محاولة أميركية واضحة لدفع إيران لتقديم تنازلات سياسية في مجال القضية الفلسطينية على وجه التحديد في مجال تمرير صفقة القرن، الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية والتي "بشّرنا"كوشنير بأنه سوف يتمّ الإعلان عنها بعد انتهاء شهر رمضان المبارك. 
ولأن الأمر المؤكّد بأن إيران سوف تصمد ولن ترضخ لهذه المحاولات الأميركية المكشوفة للضغط عليها، وإجبارها على تقديم تنازلات في القضايا المبدئية التي تمسّكت بها منذ اليوم الأول لانتصار ثورتها المُظفَّرة، وهذا ما عبَّرت عنه عندما أعلنت بأنها سوف تنسحب من الاتفاق النووي بالتدرّج ، وسوف تردّ على العربدة الأميركية برفع نسبة تخصيب اليورانيوم، فإن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو انتهاء التوتّر الحالي ودخول الاتحاد الأوروبي وربما روسيا والصين في وساطة بين الطرفين تفضي إلى طاولة المفاوضات..
ولكن إن اعتقدت أميركا بأن فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية الأميركية على إيران وحذا حذوها الاتحاد الأوروبي في هذا المجال لإجبار طهران على الاستسلام وعقد اتفاق نووي جديد مع واشنطن على أساس شروط لا علاقة لها بالاتفاق السابق على الإطلاق، مثل التخلّي عن برنامجها الصاروخي والتخلّي عن حركات المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن والعراق، وسحب مستشاريها العسكريين من سوريا، فإن الأمور ذاهبة نحو الحرب لا محالة التي قد تلجأ إيران إلى تفجيرها إن رأت فيها الخيار الوحيد للخروج من الأزمة.
كما أن أيّ محلّل سياسي موضوعي لا يمكن له أن يُسقِط من حساباته احتمالية أن تؤدّي حسابات أميركية خاطئة ما في التعامل الأميركي مع إيران إلى خروج الأمور عن السيطرة واندلاع حرب في المنطقة، سيما وأنه يوجد في إدارة ترامب الصهيونية والمُتصهينة أن توجيه ضربة عسكرية لإيران ستؤدّي إلى انهيار الدولة الحامية لمحور المقاومة ، وبالتالي إلى انهيار المحور ككل وإقامة شرق أوسط جديد وهو الأمر الذي فشلوا في تحقيقه أثناء الحرب التي شنّتها إسرائيل على لبنان في تموز 2006 وفشلوا مرة ثانية في تحقيقه من خلال الحرب الكونية التي شنّت على سوريا منذ العام 2011 إلى اليوم.
وأخيراً يبقى الشيء المؤكّد والحقيقة المُطلقة أن صفقة القرن لن تمر أولاً :لأن المقاومة الفلسطينية الرافِضة لهذه الصفقة ومن ورائها الغالبية الساحقة من أبناء الشعب الفلسطيني، سيستمرون برفضها مهما بلغت التضحيات، وثانياً: لأن الدولة الحاضِنة عصيّة على الكَسْرِ لا من الداخل ولا من الخارج.