بطريرك أخّاذ
يفتح البطريرك مار نصر الله بطرس صفير شهيّة الباحث، ليثير إشكاليات لم يتجرّأ سواه أن يفتحها لأنه شخص منحدر من ريفون أحدى قرى لبنان ممَن لم يعتد للتقيّد من معنى فهي الإطار الإلزامي الضروري الذي لا يرى الكون إلا من خلاله.
أبصر النور مع إشراقة لبنان الكبير سنة 1920، من خلال البطريرك السلف إلياس الحويك. وقبل 28 سنة تماماً من ولادة دولة الكيان الصهيوني في 15 أيار. عندما دخل حياته الكهنوتية انطلق البطريرك المؤسّس الحويك، فأكمل الشاب مسيرته فدرس ودرَّس، دخل الدنيا طالباً وخرج منها طالباً؛ لأنه كان نَهِماً وشغفاً للمعرفة، فيغرف من ينابيعها كل جديد كل صباح ومساء. عاصر استقلال لبنان سنة 1943، وأحداث 1958، وحربي 1967 و1975. عايش لبنان منذ مولده، حتى الأحد الماضي وحافظ على تألّقه وتأنّق الكلمة وتأنّي الحلم.
قد لا يتفق المرء مع مواقفه، لكن ثباته عليها وإخلاصه لها يجعل منه إنساناً صنديداً، ومرجعاً كبيراً فكان الملاذ عندما تضيع إبرة بوصلة البعض. لم يهادن فانطلق إلى فضاء الحرية الرحب، التي قدَّسها وفضَّلها على العيش الواحد، معتبراً إياها القبلة المشرقية الأساس التي أضاع من أجلها الكثير لكنه قرّر أن يكتفي ليكون مترّهباً في رحابها. سعى لئلا يكون لبنان للموارنة بل الموارنة للبنان وأن يحقّق هذا المُبتغى بكل جوارحه، إذ نقل أحد الأشخاص إليه رسالة استمزاجية لتوزير أحدهم فأجاب البطريرك: (لا أقول لا، ولا أقول نعم). أيقن لاحقاً هذا المرسال، أن البطريرك لا يودّ أن ينحسب عليه الموارنة فقط، كما أنه ليس للبطريرك مآخذ على هذا الشخص إذ توزَّر فعلاً.
رفع العصا عند حرب الإلغاء فهدَّد بالحرم الكنَسي لمَن يرفع السلاح من المسيحيين لأجل حمايتهم فكان بطريرك الإنسان وليس الأمر الواقع وما يترتّب عليه من مُقدَّرات ومُستخلصات.
لكنه دعا سنة 1992 إلى مقاطعة الانتخابات، فكانت النتيجة خروجاً عنيفاً للسلطة من المسيحيين وليس العكس، فكانت حركة انعزالية استراتيجية ربما كلَّفت الكثير. حافظ الرجل على هدوئه في عصر تشرذم زعماء بيعته، فحلَّ بمكان ومكانة حيِّز منهم، فحمل لواءً واسعاً يضيق على شخص ويتّسع على بطريرك مشرقي. فكدَّس النتائج إلى أن حشد الطاقات لمواجهة أي اعتداء على لبنان من أي حدب أو صوب، فكان قطباً لاتجاه معيّن أدى بنهاية المطاف أن يترك زمام السلطة البطريركية سنة 2011.
هو مَن أوقد نيراناً سنة 2000 بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، وهو مَن أسكت المتهجّمين على بكركي من يوم تنصيبه سنة 1986 فسنة 1989، ثم سنة 1992، و2000، و2005، و2006 حتى حينه. فهو بطريرك محيِّر بحزمه حر بِحُرِيَة كما يقول رامبو.
يبقى الإنسان في ما بقي له وعليه بعد انتقاله من هذه الدنيا إلى تلك، فالكاردينال صفير هو بطريرك دائم سعى أن يجمع في كَنَف جلبابه مَن اشترك وإياهم بالفكر فلم يخاصُم ولم يعاد. لكن حَرِصَ قدر الإمكان أن يجعل من صَرح بكركي النقطة الفيصل في المواضيع المفصلية الضرورية الثابتة ، الواضحة بنظرته الثاقِبة العنيدة العتيدة المُستشرفة لضرورات المستقبل رغم من رَكِبَ الموجة كي يُغرِق السفينة بمسامير دفعته أن يصف في آخر حياته هذا العصر بالزمن الرديء. هو شجاع حد تجرّئه في الإقرار بالإخفاقات التي واجهته واُوقِع بها، أو لم يَجِد التصويب.
فهو البطريرك الأشوس في زمن التصفيق والتخوين، وسيّد لمكان حوَّل من حوله إليه.
يجذبك أنه من البطاركة الذين سخَّروا أنفسهم لأجل القضايا التي آمنوا بها ، فأخلص بحمايتها حد تعرُّضه خمس مرات لحوادث اغتيال لم تنجح هي فانتصر هو. هو بطريرك الإنسان في كل مكان وزمان، فلمع في هذه السماء لا سيما حين يلمح كل واحد من البشر.
أنشأ نمطية تخلِّده فهو بطريرك الراحة الممدودة إلى اللامتناهي، والانقباض الكلي عن التغيّر إلا للأفضل ، لأن الثابت هو متحوِّل في ذاته وواثق بك من أجل نفسه.
فهو مَن تحدّى فانطلق إلى الجبل سنة 2001، فطوى صفحة سوداء دموية عمرها 140 سنة، ليفتح أخرى بيضاء يوقّعها الناس بدمهم وحبهم بين دروز وموارنة الجبل اللبناني الحبيبين، فأسّس لمستقبل يدوس حطام الماضي فكان الكاردينال المبادر حيناً. كما أنه أسكت الأصوات المنادية بإسقاط رئيس جمهورية بالشارع، فاختار الوطن بطريقته كبيضة القبَّان.
ورَحل البطريرك صفير، ليكمل لبنان الكبير الجميل الذي عاش من أجله فاتكل الإثنان على جبله فتكللا بالمجد الذي لا يُسلَب. فهنيئاً للكنيسة إن فكّر بها أسيادها بكنيستهم وأوطانهم، وطوبى للبطون التي تنجب من اعتقد فعمل مستمراً مسمراً وراء مقود الأحلام الكبيرة لتتحقّق في يوم من الأيام.
لن يصل الكبار لما يطمحون، لذا فإن تطلّعات البطريرك صفير ذروة وقبلة لأجيال المستقبل المقبل ، إذ أن رؤيويته ستطال عقوداً وربما قروناً ستلي يوم 16 أيار 2019 حين طوى التراب صفحته وقلب رزنامته إلى قادم الأيام لاستلهام ما قد ينضج أكثر، أو أن ينضح متجوهراً.
فعندما يشدُّ الإنسان روحه إلى قوسه فيطلقها، ويصبح ورقة بيضاء ناصعة سيكتب عليها الناس ويكتبوها كما يشاؤون ، لأن صاحبها حارس الجمهورية استراح بنومه الأبدي العميق ليكمل الدرب من فوق فيسدل الستارة على حقبة مديدة ويترأس السلطة التي انتهجها منذ سنة 1943 مروراً بكل مراحل حياته التي عاشها وعايشها بصدق وعمق.
قال الرئيس رفيق الحريري لغبطته يوماً، إنه يضمن المناصفة على زمنه وأولاده وأحفاده، أما بعد ذلك فلا يعرف ماذا سيحصل ولن يضمن شيئاً... ذكّرتني هذه العبارة بالأب ميشيل الحايك الذي قال في ظرف تاريخي لست بصدد ذكره، أنه يخشى أن تقوم جنازة بطريرك ثم تتلوها جنازة أخرى. ولا سيما أن مسيحيي هذه المنطقة باتوا في خطر على شفير الهاوية، لذا يجدر أن نستلهم من مشروع المطران رولان أبو جودة محيّاً مشرقاً، ليكون مهاجرو الغرب من المسيحيين جسراً لتثبيت أهل هذه المنطقة بأرضهم. فالتجذير التاريخي، والتألق الجغرافي يفقد وهجه مع الزمان.
يكفي أن يرقد البطريرك مرة، وأن يرتاح الناس ألف مرة لأننا الآن بلحظات استراتيجية حساسة ستؤسّس إما للخراب أو الإعمار فإمَّا الوطن أو الموت! ليبقى لبنان واحة أمل للتنوّع المنطقي والمناطقي الجميل، وليخسأ مَن يُسدِّد لخاصرته شوكة ستنزفه. بالنهاية رحم الرب البطريرك، كثيراً ما يختلف الإنسان معك فيحترم توافقك مع نفسك وكفى الله المؤمنين القتال.