عام على نقل السّفارة الأميركيّة إلى القدس المحتلّة: أمر واقع أمْ خطوة معزولة؟
مرّ عام على نقل السفارة الأميركية من "تل أبيب" إلى القدس المحتلة في 14/5/2018، بقرار من الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي كان قد أعلن في 6/12/2017 اعتراف بلاده بالقدس عاصمة لـ "إسرائيل". كانت هاتان الخطوتان هدية ترامب الأولى إلى دولة الاحتلال ريثما يستكمل فريقه إعداد ما اصطلح على تسميته بـ "صفقة القرن" ، ليتوّج بها هداياه إلى "إسرائيل" عبر تصفية القضيّة الفلسطينيّة بإسم السّلام.
ولعلّ التسريبات التي خرجت في الإعلام عن مضمون "صفقة القرن"، تحديداً ما يتعلّق بالقدس المحتلّة، تؤكّد بطريقة أو بأخرى أنّ أحد أهداف الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لـ "إسرائيل" ونقل السفارة الأميركية إليها ، كان استعراض ردّات الفعل على هذين الإجراءين، وفرضهما كأمر واقع بعد أن يجري ترويض العقل الدّولي والعربي والإسلامي على القبول بهما والتعامل معهما كحقيقة لا يمكن الرجوع عنها وعكسها، ولا بدّ من القبول بها من أجل أن يحلّ "السلام" في المنطقة.
إلّا أنّه وبعد مرور عام على نقل السّفارة الأميركية إلى القدس، وعلى الرّغم من الحديث عن اقتراب موعد طرح "الخطة الأميركية للسلام"، فإنّ هذه الخطوة بدت معزولة في ظلّ عدم نقل أيّة دولة أخرى، باستثناء غواتيمالا، سفارتها إلى المدينة المحتلّة. عدم نقل الدول سفاراتها لم يكن ناتجاً، في كل الحالات، من رفض هذه الدول هذا الإجراء أحاديّ الجانب، فثمّة دولة أظهر قادتها رغبة في نقل سفارة بلادهم إلى القدس، ولكن ما منعهم هو الجوّ الرّافض والخوف من تضرّر مصالح بلادهم في حال الإقدام على مثل هذه الخطوة.
فالاتحاد الأوروبي أعلن رفض إعلان ترامب القدس عاصمة لدولة الاحتلال، ورفض كذلك نقل أيّة بعثة دبلوماسية إلى المدينة المحتلّة قبل حسم وضعها النّهائي. وحاولت دول أوروبّيّة خرق هذا الرفض في محاولة لتعزيز العلاقات مع الإسرائيليّين ونظراً إلى علاقات الصّداقة الشّخصية التي تربط بعض المسؤولين فيها برئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو. ففي هذا السياق، أبدى الرئيس التشيكي ميلوس زيمان رغبته في نقل سفارة بلاده، لكنّه عاد في نهاية المطاف ليقرّ بصعوبة الخطوة، التي استعاض عنها بافتتاح مركز ثقافي في الشطر الغربي من القدس المحتلة. وفي رومانيا برز انقسام بين فيوريكا دانشيلا، رئيسة الوزراء، التي عبّرت عن رغبتها في نقل السفارة، ورئيس البلاد كلاوس يوهانيس الذي رفض الأمر طالما لم يتوصّل الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي إلى اتّفاق حول القدس. وفي حين نقل الإعلام العبري عن أندريه دانكو، رئيس البرلمان السلوفاكي، تصريحاً يفيد عزم بلاده نقل سفارتها إلى القدس ، فقد صدر بيان عن الخارجية السلوفاكية أكّد أنّ موقف سلوفاكيا مستند إلى موقف الاتحاد الأوروبي المشترك الذي يدعو إلى حلّ وضع مدينة القدس عبر مفاوضات مشتركة تفضي إلى اتفاق، باعتبار القدس عاصمة للدولتين، ورفض الخطوات السّياسيّة أحاديّة الجانب. أمّا المجر التي افتتحت، في مارس 2019، مكتباً تجارياً في القدس له مكانة دبلوماسية فأكّد وزير خارجيتها أنّ سفارة بلاده ستبقى في "تل أبيب".
وعبّرت المواقف التي خرجت من بعض دول أميركا اللاتينية عن الانزياح نحو اليمين الذي تشهده هذه الدول عموماً. فقد أعلن يائير بولسونارو، رئيس البرازيل المُنتخب في أكتوبر 2018، عن نيّته نقل سفارة بلاده إلى القدس. لكنّ تصريحه هذا لم يلبث أن اصطدم بالخوف من تضرّر المصالح الاقتصاديّة لبلاده على خلفية تأثّر تجارة اللحم الحلال بين البرازيل والدول العربية والإسلامية. وحاول بولسوناو تجميل العجز عن نقل السفارة بالإعلان أنّ بلاده تتّجه إلى افتتاح مكتب تجاري في القدس، سيكون جزءاً من السّفارة البرازيليّة في "إسرائيل"، ومهمته العمل على تطوير التّجارة والاستثمار والتّكنولوجيا والإبداع بين البلدين. وكانت كل من الباراغواي وغواتيمالا سارعتا إلى نقل سفارتيهما إلى القدس المحتلّة عقب نقل السفارة الأميركية إليها، لكن فوز ماريو عبدو بينيتيز بالرئاسة في البارغواي حمل خبراً سيئاً إلى دولة الاحتلال فقد أعلن وزير خارجيته في سبتمبر 2018 عن إعادة السفارة إلى "تل أبيب".
ولم يكن الوضع أفضل بالنسبة إلى أستراليا وهامش قدرتها على نقل السفارة، الذي قيّدته بوادر الأزمة التي لاحت بين أستراليا من جهة وكلّ من ماليزيا وإندونيسيا من جهة أخرى على أثر إعلان رئيس الحكومة الأستراليّة، في أغسطس 2018، انفتاحه على الخطوة. ومع تعذّر نقل السفارة، فقد افتتحت أستراليا في مارس 2019، مكتباً للتّجارة والدّفاع في الشّطر الغربي من القدس المحتلّة، ليس له مكانة دبلوماسيّة.
هكذا، وبعد عام من نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، بقيت الخطوة معزولة ولم تتمكّن الولايات المتحدة من تحويلها إلى أمر واقع، أو تمهيد الطريق أمام الدول لنقل سفاراتها، ويؤكّد هذا الأمر أنّه حتى الدول الراغبة في نقل سفاراتها لم تجرؤ على ذلك، وفتحت مكاتب ثقافية أو تجارية في القدس، أو وعدت بافتتاح هكذا مكاتب، كاعتراف منها بالعجز عن نقل السّفارة من جهة، ولتثبيت موقفها الإيجابي حيال دولة الاحتلال من جهة أخرى. لكن على ما يبدو فإنّ عزلة الخطوة الأميركية لن تمنع الولايات المتحدة من طرح خطّتها للسلام؛ فهل ستفرضها كأمر واقع أم يكون مصيرها كمصير نقل السّفارة؟