من قميص "فضيلة" إلى "الفولارة": تؤرّخ لنضالات المرأة التونسية
لا بدّ الإسراع بسن التشريعات القانونية ووضع الآليات الكفيلة بحماية النساء الريفيات من مخاطر النقل غير الآمن وحفظ حياتهن وتوفير أشكال التغطية الاجتماعية لهن بما يضمن كرامتهن ويكافئ تضحياتهن ومساهمتهن الفعّالة في تحقيق أمننا الغذائي ودفع التنمية الاقتصادية.
جدّ صباح يوم السبت 27 أفريل 2019، حادث مرور مريع بمعتمدية السبالة من ولاية سيدي بوزيد على مستوى حي الشارع أسفر عن وفاة 12 عاملة في الفلاحة وإصابة 20، الحادث أثار ردّة فعل ساخطة من أبناء الشعب في وقفات احتجاجية وفي تعاطف واسع من لدن الشعب التونسي و فتح مربّع الحديث عن انتهاكات حقوق العاملات ، كما أنّه كشف الوجه البشع عن استغلالهنّ و ظروف عملهنّ المهينة ، كما انّه كشف عن تشغيل الأطفال و بل أنّ العديدات منهنّ لا يملكن بطاقات هويّة . و فوق أحد منازل الشهيدات الخبز رفرفت عالياً "الفولارة" التي أضحت منذ ذاك الحادث الأليم رمزاً لعزّة النفس و المقاومة ، في هذا النصّ أورد اقتران لباس التونسيات بقصص النضال.
اللباس التقليدي للتونسيّات مُقترناً بالكفاح و الشرف:
مريول فضيلة أو حورية من اللّباس التقليدي التونسي النّسائي وهو عبارة عن قميص يُصنَع من قماشٍ قطني قطني يُخطّط ويُزيّن باللون الأزرق أو البنفسجي وهو باهظ الثمن و لا يقع ارتداؤه إلا في المناسبات مع التخليلة الحمراء، و حول شعبيّة هذا القميص وبعد بحث في عديد المصادر المنفصلة فإنّي توصّلت لثلاث روايات أساسيّة أوردها كما هي:
تقول الرواية الأولى: " جبر الأتراك فتاة تونسية ، كانت شابة وجميلة، واقتادوها أسيرة للخلوة مع السلطان العثماني، كان إسمها”فضيلة الشارني” من مدينة الكاف التونسية ، أخفت “فضيلة” خنجراً في ثيابها ولما اقترب منها السلطان همّت بضربه في عنقه فأصابته بجرح عميق وغائر في وجهه فأمر السلطان العثماني بإعدام فضيلة أمام أهلها، وفي ساحة السوق، وقطع رأسها. كان يوماً أسود ، في بلدة “شارن” إحدى قرى مدينة الكاف، خاصة أنه وفي لحظة إعدام فضيلة جرّدها جنوده، من ثيابها الفوقية وكانت ترتدي قميصاً تقليدياً (سيُعرف ، لاحقاً ، عند التونسيين باسم ” مريول فضيلة).
فقرّرت ، حينها ، نساء وفتيات البلدة والبلدات المجاورة شراء قمصان شبيهة بقميص البطلة "فضيلة" ولباسه في رسالة للمستعمر العثماني أن نساء تونس كلهن ” فضيلة “: تجوع وتقتل ولا تأكل بثدييها
على سياق آخر يقول الأستاذ نجيب عبد الرزاق، أستاذ الحضارة العربية في الجامعة التونسية، إنّ " أحد قادة جيش الاحتلال الفرنسي كان في جولة بجهة "عقلة شارن" بمنطقة الكاف في الشمال الغربي التونسي فانبهر بجمال إحدى الصبايا تُدعى "فضيلة الشارني" وكانت بقدّ ممشوق وصاحبة خال على خدّها ينسدل فوقه شعر فاحِم. واستتباعاً للحكاية، أرسل هذا القائد الفرنسي جنده لخطف فضيلة غير أنها استبسلت في الدفاع عن شرفها ، فتركت له ندوباً على وجهه ولم تجعله يمسّها بسوء، وفرّت هارِبة وهي ترتدي لباساً داخلياً مخططاً بالأزرق والبنفسجي كان رائجاً لدى نسوة الجهة آنذاك.
و درءاً لفعلته و فضيحته أطلق القائد الفرنسي النار من مسدّسه على فضيلة لتهتزّ لهذه الحادثة المملكة التونسية بأسرها، وقد تضامنت معها كل نسوة البلاد في يوم مشهود بأن لبسن كلّهن ذلك اللباس الذي تغدّر بدم الشابة الكافية وتنديداً بالغدر الفرنسي ومحاولة النيل من الشرف. وعليه ومنذ ذلك الوقت، أصبح يطلق في تونس على إسم هذا النوع من القميص الذي انتشر في كامل البلاد مُسمّى "مريول فضيلة" نسبة للشابة التونسية التي دافعت عن شرفها".
وفي تاريخية أخرى تقرن عديد المصادر أنّ تسمية اللباس "مريول فضيلة" إلى الفنانة التونسية "فضيلة ختمي" التي عاشت في بداية القرن العشرين والتي اشتهرت في بداية بث ّالأغاني براديو القصبة سنة 1920 ، كما كانت تنجز مسرحيات وتسهم في برامج إذاعية تُعنى بقضايا المرأة إلى جانب ناجية ثامر والسيّدة المحرزي، وقد تأثّرت بها النساء التونسيات إذ كانت رمزاً بالنسبة إليهن فتأثّرن بلباسها الذي بات يُعرَف بـ"مريول فضيلة. "
رغم اختلاف تاريخية منشأ تسمية "مريول فضيلة" إلا ّ أن الروايات اتفقت على دلالته ، دلالة عزّة النفس و كبرياء المرأة و شموخها ، دفاعاً عن حقّها في العيش بكرامة و مساواتها مع الرجل في كافة المجالات
الفولارة من رمز للابتهاج و الفرح إلى رمز للاحتجاج و غضب المراة
الفولارة أو "المحرمة التقليدية" وهو وشاح تلبسه النساء في تونس و يحمل رسوم الأزهار بألوان زاهية ، كما أن للفولارة التونسية رمزيّة أثناء الاحتفالات بزواج أو نجاح أو عودة أحد الأقارب من الحجّ أو بختان ، اذّ انهّا تعلق في مدخل المنزل أو فوقه كدلالة على الفرحة و الابتهاج تحوّل على أثر الحادث الأليم إلى رمز احتجاج و إعلاءً لصوت المرأة الريفية ، 7 نساء استشهدن في سبيل القوت اليومي يرتدين الفولارة للاحتشام و ستر شعرهنّ ، كما أنها كانت حماية من برد الفجر القاسي خاصة أنهن كنّ يمتطين شاحنة مكشوفة لا تحميهن من لسعات البرد ، تلك الصدمة المهولة التي أصابت الشارع التونسي كشفت أن الفولارة التونسية كانت تُستعمَل كذلك لحفظ وجبات الفطور البسيطة : رغيف خبز مع طماطم و فلفل و زيت .
فلقد أضحت الفولارة لدى التونسيات و التونسيين اليوم كرمز للمرأة العاملة في القطاع الفلاحي و المغيبةّ تماماً عن البرامج التنموية و المشاريع التسغيلية و حمايتها اجتماعياً .
تأنيث الفقر واضطهاد عاملات الفلاحة
وبخصوص العمل في القطاع الفلاحي تشتغل 61% من النساء كعاملات عرضيات موسميات في حين يشتغل 28% منهنّ بصفة قارة. وتوكل للنساء مهمة الجني (78%) ومقاومة الأعشاب الضارة (69.5%) والبذور (64.5%) ومهمة حمل المنتوج (36.2%) ونقل المحصول (17%) وتولّي أعمال الحرث (10%). وتعيش عاملات الفلاحة ضغطاً كبيراً في أيام العمل بسبب نشاطها الفلاحي وقيامها بالأشغال المنزلية وتربية أطفالها ، الأمر الذي يدفعها لتخصيص ساعتين فحسب لحاجياتها الفيزيولوجية ولاستغلال القليل من الوقت للزيارات العائلية وأداء الصلوات.
وبالإضافة إلى التمييز على أساس الجنس في العمل الفلاحي تواجه عاملات القطاع الفلاحي في الريف صعوبة في ظروف التنقّل فتضظر أغلبهنّ إلى التنقل إلى العمل عبر شاحنات أو بواسطة مجرورات أو شاحنات ثقيلة. كما يعمد العديد من سماسرة نقل العاملات بسكب الماء في السيارة كي تضطرّ العاملات للبقاء في وضعية الوقوف في الشاحنة ، وهو ما يسهّل له عملية نقل عدد أكبر منهنّ ، كما ان بعض أصحاب السيارات لا يتولون استخلاص معاليم تأمين الجولان ما يعني تعريض العاملات إلى مخاطر حقيقية.
وفق إحصائيات وزارة التكوين المهني و التشغيل تعمل قرابة 450 األف امراة في المستغلات الفلاحية الصغرى، كما تحدّد مجلة الشغل العمل بالمؤسّسات الفلاحية 2700 ساعة عمل في السنة و تقرّ بحق العمال في راحة أسبوعية و ساعات إضافية، و الحقيقة المرةّ أن هذه المجلةّ كما يقال المثل التونسي "بلّها و اشرب ماءها" على اعتبار أنّ هذه المجلة لا تطبقّ و أغلب العاملات يجهلن حقوقهن علاوة على غياب الدولة الكامل عن هذه هذه الشريحة ، فمثلاً تمتد ساعات العمل للكادحات من الخامسة صباحاً إلى الخامسة مساء ، كما إنهن يعملن طيلة أيام الأسبوع على اعتبار أن العمل الموسمي في الجني أو البذر أو غيره يتأثّر بتوقّف العمل ، كما إنهن لا يتقاضين مقابلاً للساعات الإضافية ، كما أن 99 % من نساء الريف يعملن في القطاع الفلاحي لأكثر من 9 ساعات ، و ليس لهن أية أدوات حماية أثناء استعمالهن للمبيدات الحشرية أو بعض الأدوية ، و هو ما يمثل خطراً محدقاً بصحتهنّ ، تفيد دراسة للوكالة الوطنية للرقابة الصحية والبيئية على المنتجات تمّ إنجازها سنة 2003 حول تأثيرات المبيدات الحشرية على الصحة ، إن هذه المبيدات تحتوي على مواد فاعلة تستعمل في العديد من القطاعات كالفلاحة والصحة وغيرها.
وأكّدت الدراسة أنه ينجر عن هذه المبيدات واستعمالها غير الواعي وغير المراقب تداعيات خطيرة على صحة الإنسان، وعلى التوازن البيولوجي وأيضاً على البيئة حيث يتواصل وجود بعض المبيدات الزراعية لفترة طويلة بعد الاستعمال ، ويتحوّل من محيط إلى آخر إما بطريقة سلبية كالتبخّر والاستنشاق أو بطريقة فاعلة بيولوجية كالغذاء وغيره على غرار مادة " ددت " التي يبقى أثرها لسنوات من منع استعمالها في التربة وفي المواد الزراعية وحتى في جسم الإنسان.
ومن بين المخاطر التي تظهر على صحة الإنسان وخاصة لدى المستعملين المباشرين للمبيدات مثل الفلاح والعامل الفلاحي والبائع و الصناعي وأيضاً لدى المستهلك، حالات التسمّم و الإصابات الموضعية وإصابات على مستوى الجهاز التنفسي و التسمّم العصبي على مستوى القلب والشرايين والغدد الصمّاء.
في ظلّ تكرّر حوادث الطرقات وتعدّد المخاطر التي تتعرّض لها النّساء الفلاّحات نتيجة ظروف العمل غير اللائقة والماسّة بكرامتهن، والتي تصل حد الموت الناتج من اعتماد وسائل نقل غير محمية، ولا تخضع لأية ضمانات قانونية، والتي يتبع أصحابها المسالك الفلاحية للتهرّب من المراقبة . وفي ظل سياسة التشغيل الهشّ وضرب شروط العمل اللائق الذي ينعكس سلباً على الفلاحات كحلقة أضعف في القطاع الفلاحي غير المُهيكل، تعالت مطالب المجتمع المدني وحتى الهياكل المعنية كالاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري الذي عبّر عن استيائه من تمادي السلطات المعنية في تجاهل ملف النقل الفلاحي وعدم اكتراثها بما يخلفه من فواجع ومآس.
لا بدّ الإسراع بسن التشريعات القانونية ووضع الآليات الكفيلة بحماية النساء الريفيات من مخاطر النقل غير الآمن وحفظ حياتهن وتوفير أشكال التغطية الاجتماعية لهن بما يضمن كرامتهن ويكافئ تضحياتهن ومساهمتهن الفعّالة في تحقيق أمننا الغذائي ودفع التنمية الاقتصادية.