الاقتصاد كلمة السر

فكان البرتغاليون وقتها في غاية النشاط في مدينة كوزيكهود الهندية، بالرغم من أن مدينة جوجارات الساحلية كانت أهم بالنسبة للتجارة بين الشرق والغرب، حيث كانت تمثل معبراً هاماً للتوابل والبخور والبضائع التي تمر من الصين إلى مصر وبلاد الشام.

أرقام حجم الصادرات الصينية تطيّر النوم من عقول الاقتصاديين في الولايات المتحدة

مع مطلع القرن الخامس عشر الميلادي كان الأسطول البحري البرتغالي يصول ويجول في محيطات وبحار العالم، وأصبح مُتحكّماً تماماً في أهم الطرق البحرية التجارية في العالم وقتها، ولسياسة البرتغال المعروفة بتضييق الخناق على مستعمراتها عاد ذلك الأمر بالخسارة على تجّار مدينة البندقية الإيطالية ما جعل الأخيرة تبحث عن حل بعد أن ازدادت خسائرها بسبب ركود بضائعها، حتى أرسلت وفداً إلى مصر لكي يقنعها بأن تقوم بخفض الضرائب التي تفرض على البضائع الإيطالية التي تستقر في مصر لكي تعود لمنافسة البرتغال مرة أخرى، ولكن مصر المُتضرّرة أيضاً كانت تبحث عن حل جذري، وكان هدفها أكبر من بيع التوابل والعطور والأقمشة والأخشاب، وكانت تبحث عن سيادتها في أعالي البحار، ولكن كيف والبرتغال أسطولها البحري يمتد حتى سواحل الهند ومُسيطر تماماً على كلٍ من ميناء جاول وكوزيكهود وكانور وجوجارات في الهند.

ومع وصول فاسكو دي غاما 1498م للهند أصبحت للبرتغال الكلمة العليا في سواحل الهند، وتحالفت البرتغال مع مملكة كوجين، لكي تؤسّس البرتغال بعد ذلك لمقارها بكجرات، وفي عام 1505م أرسل ملك البرتغال مانويل الأول تعزيزات عسكرية ضخمة للامبراطورية البرتغالية الوليدة في سواحل الهند بقيادة نائبه دوم فرانسيكو دي الميدا، وبعدها بعامين أي في عام 1507م قامت البحرية البرتغالية بقيادة أفونسو دي البوكرك بغزو على مدخل البحر الأحمر ومضيق هرمز حتى باتت كل مداخل المنطقة البحرية بيد البرتغال وحدها.

فكان البرتغاليون وقتها في غاية النشاط في مدينة كوزيكهود الهندية، بالرغم من أن مدينة جوجارات الساحلية كانت أهم بالنسبة للتجارة بين الشرق والغرب، حيث كانت تمثل معبراً هاماً للتوابل والبخور والبضائع التي تمر من الصين إلى مصر وبلاد الشام.

وكانت مصر والشام وقتها تحت حُكم المماليك، ولم يكن لديهما خبرة كبيرة في الملاحة البحرية، فبدأت مصر باستيراد الأخشاب عبر البحر الأسود لبناء الأسطول الذي سيخوض المعركة ضد البرتغاليين، ولكن بتحريض أوروبي قام فرسان القديس يوحنا الذين عُرِفوا في ما بعد بإسم "فرسان مالطا" بمهاجمة قوافل الأخشاب المتّجهة إلى مصر، ولم تسلم أية قافلة من عمليات القرصنة المُمنهجة من الصليبيين، فكان بالكاد يصل نصف الكميات المطلوبة من الأخشاب لكي تُنقَل بعد ذلك على ظهور الجِمال إلى ميناء السويس البحري ليبدأ تجميعها تحت إشراف نجّارين مهرة من مدينة البندقية الإيطالية أرسلوا خصيصاً بعد أن علمت البندقية نيّة مصر تجاه البرتغال.

فلم يكن غريباً على إيطاليا التي ولِدَ في أشهر جزرها ألا وهي جزيرة صقلية أعظم قائد في التاريخ الفاطمي الا وهو أبو الحسن جوهر بن عبد الله، المعروف بجوهر الصقلي مؤسّس مدينة القاهرة وباني جامع الأزهر الشريف ، ومَن أقام سلطان الفاطميين في المشرق وفاتِح بلاد المغرب أن تتعاون مع مصر، كما أن جزيرة صقلية نفسها في القرن التاسع الميلادى كانت إمارة فاطمية.

وانتهت مصر من بناء أسطولها البحري الجديد، وأخيراً بدأ يتحرّك الأسطول المصري في فبراير 1507م تحت قيادة الأمير حسين الكردى الذي كان قائداً عسكرياً أيام السلطان قانصوه الغوري، لكي تضع مصر حداً  للتوسّعات البرتغالية في المحيط الهندي، حتى وصل الأسطول المصري إلى ميناء ديو عام 1508م، وتكوّنت حملته العسكرية من 6 سفن حربية و6 قطع بحرية ضخمة تحمل 1500 مقاتل برفقة سفير مدينة كالكوت الهندي، ولمعاملة البرتغاليين السيّئة لأهالي الهند قام السكان المحليون الهنود مدعومين بقواتٍ عربيةٍ في عام 1507م بحصار كانور وصد قوات برتغالية أغارت على المدينة.

إلى أن جاءت "معركة ديو البحرية" بين البحرية البرتغالية والبحرية المصرية في 3 فبراير 1509 ميلادي، والتي كان لها أكثر من بُعد أستراتيجي وتاريخي، وكان من المُخطّط أن يرافق الحملة العسكرية المصرية القائد البحري مالك عياذ وهو جنرال عسكري مُحنّك من أصل روسي، عمل تحت إمرة سلطان مدينة كامباي الهندية، وكان حاكماً لميناء ديو، كما كان من المفترض أن ينضمّ الأسطول البحري إلى حاكم كالكوت قبل أن يشنّ هجمات على القواعد البرتغالية على الساحل الهندي، لكن كان حسين الكردي قائد القوات المصرية قد تحرّك.

رابضت سفن القوات البرتغالية بقيادة لورنسو دوم فرانسيسكو دي ألميدا (نجل نائب ملك البرتغال على الهند فرانسيسكو دي ألميدا) في ميناء جاول، أما باقي الأسطول فأبحر شمالاً لحماية السفن البرتغالية التجارية من هجمات القراصنة، ثم تحرّك الأسطول المصري المملوكي قبالة سواحل ميناء جاول واشتبك مع القوات البرتغالية لمدة يومين متتاليين، حتى ألقت سفن القائد مالك عياذ بثقلها في المعركة، وبدأت تتساقط سفن الأسطول البرتغالي واحدة تلو الأخرى، حتى ترك البرتغاليون باقي سفنهم لتغرق في مدخل الميناء ومعهم قائدهم لورنسو دي الميدا.

وقد انتهت تلك المعركة بانتصار ساحق للقوات البحرية المصرية، ولكن سرعان ما استعادت البرتغال توازنها بعد أن خطّط نائب ملك البرتغال فرانسيسكو دي الميدا جيّداً لردع المصريين وللثأر لمقتل إبنه لورنسو.

فمدينة ديو لم تكن مجرّد مدينة عادية وقتها، ولكن كانت مركز تجارة حيوياً بين الهند والغرب، فهو الطريق الذي انعش البرتغال ثم المملكة البريطانية في ما بعد.

وبالفعل أعادت البرتغال توازنها وأبحرت سفنها الضخمة المُعدّة بالمدافع وعادت فرض سيطرتها على خطوط الملاحة في الهند بعد إلحاق الهزيمة بالجيش المصري، وهي المعركة التي غيّرت شكل الصراع بين الشرق والغرب الذي كان مشتعلاً وقتها ليس في بيت المقدس، ولكن في موانئ وسواحل الهند بحُكم أهميتها التجارية والاقتصادية في تلك الحقبة التاريخية.

ولأن التاريخ يُعيد نفسه فكان يجب علينا قراءة التاريخ وإسقاطه على ما يجري حالياً، في ظل ما يشهده العالم من حرب تجارية واقتصادية كل يوم تزداد شراسة، كي ندرك أبعاد قرارات تتّخذ كل يوم من القوى العالمية والاقليمية وبنوك ومصارف دولية، كما كان علينا أن نذكر تلك الحقبة الزمنية وما بها من صراع شرس بين الشرق والغرب ليس من أجل بيت المقدس ولكن من أجل التجارة والاقتصاد، وهو السبب الحقيقي لأيّ صراع، ونحن الآن نشهد مرحلة جديدة من ذلك الصراع القديم الحديث مع تدشين الصين لخط الحرير.

فالفترة التي يعيشها العالم حالياً تشهد نفس الصراعات ولنفس الأسباب، سواء كان الصراع هنا على موارد الطاقة، أو هناك على طرق الحرير والتجارة، فالكثير من الليالي الحالية تشبه أيام البارحة، والكثير من معارك الغد ستكون تكراراً لمعارك الأمس.

وفي قراءة التاريخ سنجد أجابات أكثر عمقاً لمشاهد عديدة مثل سبب إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب الحرب التجارية على الصين، ثم على دول الاتحاد الأوروبي، ولماذا تحرّك الأطلسي لوقف إمدادات خطوط السيل الروسية للغاز تجاه أوروبا، وكيف جاء رد فعل بوتين لكسب أكبر أمّتين في أوروبا (فرنسا وألمانيا) عبر ورقة الاقتصاد والتجارة، وحينها أيضاً سنعلم لماذا انحازت ألمانيا وفرنسا لصالح إيران ضد الولايات المتحدة، ولماذا انحازت فرنسا وألمانيا لقطر بشكل واضح منذ اللحظة الأولى لإعلان الرباعية العربية مقاطعة قطر، كي لا تكون هزيمة قطر أمام السعودية هزيمة لهم أمام الأميركي في الشرق الأوسط، في ظل كمّ المصالح الاقتصادية التي تربط الدوحة بفرنسا وألمانيا، ولا يُخفى على أحد أن التجارة والاقتصاد هما أحد المحرّكات الأساسية للحرب الدائرة الحالية في الاقليم، وهي الحرب التي لم تعد نتيجة حسمها مقتصرة على السلاح فقط، فالهدف من الحرب ليس تصفية رئيس بعينه أو نظام من دون غيره، بل كان هدف الحرب الخفّي ما في باطن الأرض، في ظل انتهاء آخر احتياطات القارة العجوز من الغاز الطبيعي في بحر الشمال، وفي ظل رغبة الإنكليزي في تحويل شرق المتوسّط نسخة ثانية من الخليج العربي، قبل أن تخرج استكشافاته بعيداً عن أعينه، وهي مهمة السفن البحرية البريطانية المرابضة في سواحل شرق قبرص وفي مالطا.

فإن كان التواجد العسكري الروسي المُتنامي في الشرق الأوسط وسلاحه المُتزايد بين أيدي جيوش المنطقة أمراً مزعجاً للأطلسي، فأرقام حجم الصادرات الصينية تطيّر النوم من عقول الاقتصاديين في الولايات المتحدة، ولذلك تخوض الآن الولايات المتحدة مرحلة جديدة من الحرب العسكرية والاستخباراتية ضد روسيا في القوقاز والبلطيق والشرق الأوسط، وحرب تجارية ضد الصين في كل البحار والمحيطات والموانئ في العالم.

نعم إنها حرب تجارية اقتصادية في المقام الأول قبل أن تكون حرباً سياسية استخبارتية، فالاقتصاد هو مَن حرّك الساسة ووجّه بوصلة أجهزة الاستخبارات، وهنا أتذكّر شعار حملة انتخابية للرئاسة الأميركية عام 1992م، تمكّن من خلاله محامٍ أميركي في الأربعين من العمر إسمه بيل كلينتون من أن يهزم رئيساً مُخضرماً كجورج بوش الأب الذي جاء إلى كرسي الرئاسة بعد أن مكث في منصب نائب الرئيس لمدّة ثمانية أعوام، وقبلها شغل منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية، وهو مَن جاء إلى كل تلك المناصب من بيئة مالية نفطية قلّما خلت شركة بارزة من شركات النفط من إسمه أو إسم أحد أبنائه (جورج، جيب، روبين، نيل، دوروثي، مارفين) كعضو في مجلس إدارتها أو كمساهم كبير من مساهميها، وكان شعار حملة بيل كلينتون يتلخّص في أربع كلمات فقط وهي "إنه الاقتصاد أيها الغبي".