أبعاد شراء تركيا أس 400 من روسيا

أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في كلمة له في ديار بكر جنوب شرق البلاد أن تركيا لن تتراجع عن شراء منظومة الدفاع الجوي أس - 400 من  روسيا وأن شراء تلك المنظومة ليس له علاقة بأمن الولايات المتحدة أو حلف الناتو، فلماذا تصمّم تركيا على شراء تلك المنظومة من روسيا ولماذا تخشى الولايات المتحدة من إقدام تركيا على شرائها؟

الأهداف التركية من شراء منظومة أس 400 من روسيا:

أولاً: تعزيز العلاقات الاستراتيجية مع روسيا فهناك مصالح مشتركة تبلورت مؤخراً بين الدولتين مصالح جيو سياسية واقتصادية وطاقوية، مصالح جيو سياسية تتمثّل في الشراكة الروسية التركية في سوريا عبر اتفاق خَفْض التصعيد العسكري وتفاهمات آستانة وسوتشي، واتفاق الدولتين على ضرورة خروج الولايات المتحدة من سوريا حفاظاً على وحدتها الجغرافية، ومصالح اقتصادية تتمثّل في ارتفاع حجم التبادل التجاري بين الدولتين إلى 50 مليار دولار سنوياً ورغبة الدولتين في زيادته ليصل إلى 100 مليار دولار سنوياً، ومصالح طاقوية عبر استغلال روسيا تحالفها الناشىء مع تركيا في التفوّق على الغرب في الصراع بينهما على الغاز وممراته وعقدة مواصلاته بين الدول والقارات وهذا أحد أسباب الصراع الروسي الغربي في أوكرانيا وأحد أهم أسباب التحالف الناشىء بين روسيا وتركيا.

ثانياً: الضغط على الولايات المتحدة في ملف الكرد، فالولايات المتحدة مازالت تدعم الكرد وتقدّم لهم المشوَرة العسكرية وترفض دخول الجيش السوري أو الجيش التركي إلى مناطق سيطرتهم حتى يظل الكرد يفرضون حال أمر واقع في شرق الفرات وهي أنهم يحكمون دويلة منفصلة عن الدولة السورية حتى لو من دون سند دستوري يؤسّس لقيام تلك الدويلة مثل الحال العراقية على سبيل المثال، وتركيا ترى الكرد في سوريا امتداداً لحزب العمال الكردستاني المُتمرّد عليها عسكرياً  والتي تصنّفه تنظيماً إرهابياً وترى فيه تهديداً مباشراً لأمن تركيا القومي ووحدتها الجغرافية ، لذلك تركيا ستوظّف جميع أوراق الضغط التي تمتلكها على الولايات المتحدة من أجل ثنيها عن مواصلة دعم الكرد ومن تلك الأوراق ورقة شراء منظومة أس 400 من روسيا واستخدام الصراع التسليحي التقني بين الولايات المتحدة وروسيا لصالح الأمن القومي التركي في القضية الكردية.

لماذا تخشى الولايات المتحدة من شراء تركيا منظومة أس 400؟

أولاً: هناك تنافس تقني في مجال التسليح بين منظومة الباتريوت الأميركية ومنظومة أس 400 الروسية وبعد حرب اليمن وفشل منظومة الباتريوت في التصدّي بفاعلية لصواريخ الحوثيين تراجعت عدّة دول عن التقدّم بطلبات لشراء منظومة الباتريوت الأميركية، ومن تلك الدول على سبيل المثال الهند التي بعدما رأت الأداء الهزيل للباتريوت قرّرت شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية أس 400 وكانت تلك ضربة اقتصادية لأميركا، ولكن الهند وضعها مختلف عن تركيا لأنها دولة خارجة عن إطار الهيمنة الأميركية وهي جزء من دول البريكس المُناهضة اقتصادياً للولايات المتحدة ولديها علاقات استراتيجية مع روسيا والصين بعكس تركيا العضو في حلف الناتو والمرتبطة بتحالف تاريخي مع الولايات المتحدة، وكان هذا التحالف هو رأس الحربة في مخطّط إسقاط الدولة السورية ولم يتصدّع هذا التحالف إلا بعد صمود الدولة السورية ورغبة أميركا في التعويض عن فشلها في إسقاط الحكومة السورية بالعمل على تقسيم سوريا عبر الكرد وهنا اصطدمت المصالح الأميركية مع المصالح التركية وبدأ الخلاف الذي كان أحد تداعياته إصرار تركيا على شراء أس 400 من روسيا وهذا يُعدّ انتصاراً روسياً كبيراً على أميركا لأن هذا الشراء تفوّق من أس 400 على منافسه الباتريوت  وخرق روسي لحلف الناتو عسكرياً واختراق روسي لتحالفات الولايات المتحدة الخارجية.

ثانياً: الطائرة الأميركية أف 35 المُلقّبة بالشبح أحد مميّزاتها أنها قادرة على التخفّي من الرادارات ودخول المجال الجوي للعدو وقصف الأهداف داخل أراضيه من دون اكتشافها من قِبَل الرادارات ووسائط الدفاع الجوي ، وإذا امتلكت تركيا هذا النوع من الطائرات مع امتلاكها منظومة أس 400 فمن الممكن أن يقوم الروس من خلال تدريبهم للجيش التركي على استخدام أس 400 بمحاولة اكتشاف ثغرات في الطائرة الأميركية أف 35 تمكّن الرادارات من خرقها وتعقّبها وليس بالضرورة عبر أس 400 فروسيا تمتلك أس 500 و أس 600 وهما أكثر تطوّراً من أس 400، لذلك كان أول رد فعل أميركي على إصرار تركيا على شراء أس 400 من روسيا هو تهديدها بإلغاء تزويد تركيا بالطائرة الأميركية أف 35 لأنها تدرك قدرة روسيا على استغلال ذلك الأمر في معرفة ثغرات الطائرة الأميركية المُلقّبة بالشبح.

رد الفعل الأميركي المُحتَمل:

كما تمتلك تركيا أوراق ضغط على الولايات المتحدة، فإن الولايات المتحدة تمتلك أوراق ضغط على تركيا أيضاً وهي التمرّد الكردي المسلّح داخل تركيا وسعي الكرد للحصول على دويلة مستقلّة في شرق سوريا تهدّد وحدة تركيا لاحقاً، فالولايات المتحدة قادرة على زيادة دعمها العسكري واللوجيستي للكرد وتثبيت مواقعهم في الشرق السوري وتهديد تركيا بأن أي اعتداء عسكري على الكرد غير مقبول فضلاً عن إلغاء فكرة المنطقة الآمنة التي اتفق عليها أردوغان وترامب سابقاً، والولايات المتحدة قادرة أيضاً على إشعال فتيل التمرّد المسلح لحزب العمال الكردستاني داخل الأراضي التركية، والولايات المتحدة تُجيد مثل هذه الأمور وما نشاهده في فنزويلا الآن خير مثال على ذلك، وبالإضافة لكل ذلك الولايات المتحدة قادرة على فرض عقوبات اقتصادية قاسية على تركيا تدمّر قيمة الليرة التركية، ومن الناحية العملية أميركا قادرة على فعل ذلك وترامب صرَّح سابقاً أنه قادر على تدمير الاقتصاد التركي، والمفارقة هنا أن مجرّد تهديد ترامب أدى إلى هبوط حاد في قيمة الليرة التركية، وهو ما يعكس قدرة أميركا على إيذاء الاقتصاد التركي، واستكمالاً لأوراق الضغط التي تمتلكها أميركا على تركيا، فأميركا قادرة على تجميد عضوية تركيا في حلف الناتو وإلغاء جميع التدريبات العسكرية المشتركة، وإلغاء تزويد تركيا بمنظومة الباتريوت الأميركية وطائرات أف 35 الهجومية.

 

ختاماً : التمرّد التركي الذي نشهده على الإستراتيجية الأميركية لا يعكس رغبة تركيا في الاستقلال عن أميركا بقدر ما يعكس تآكل صورة النظام الدولي الذي تهيمن عليه أميركا الذي تشكّل بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة بقيادة أميركية مطلقة لصالح نظام دولي جديد متعدّد الأقطاب يتكوّن من أميركا ، لكن ليس لوحدها في صنع القرار الدولي بل معها روسيا والصين ودول البريكس وقوى اقليمية أحبطت المخطّطات الأميركية في الوطن العربي مثل إيران وسوريا وحزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية ، فصمود إيران وسوريا وحزب الله والمقاومة الفلسطينية كان هو العامل الأساس في تشكّل النظام الدولي الجديد متعدّد الأقطاب ، لأن هذا الصمود هو الذي أحبط المخطّط الأميركي بنقل المعركة إلى أوراسيا وداخل أراضي الصين وروسيا ، وتركيا أدركت تلك التطوّرات في شكل النظام الدولي فأرادت مُسايرته ، وأحد تداعيات تلك المُسايرة الأزمة التي تشهدها العلاقات الأميركية التركية الآن .