ماهر اليماني يعود إلى الجليل

ليست كل رصاصة تُطلَق في المعركة، تُطلَق عليك، وليست كل رصاصة تُطلَق عليك تُصيبك، وليست كل رصاصة تُصيبك تقتلك.( ماهر اليماني ).

صَدقَ الرفيق الراحل ماهر اليماني فهو الذي تنقّل بين الرصاص والقذائف مثل فراشة كانت تتنقّل بين أزهار الربيع ولم تمسّها شوكة. هو الذي عاش في حقول الألغام وبين القذائف والرصاص والمتفجّرات والقنابل، وخاض الحروب والمواجهات والمعارك كافة على مَرّ سنوات طويلة من المقاومة، يرحل قاهراً كل وسائل القتل والموت.
حياة ماهر اليماني ( 1949 – 2019 ) حفلت بكل أشكال النضال والمقاومة براً وبحراً وجواً، فكان حديث السن سنة 1968 عندما اختطف طائرة العال الصهيونية وفجّرها في اليونان، ليُعتقل على إثرها ويتعرّض للتعذيب لكنه لم يعترف بأيّ شيء وتمّ إطلاق سراحه في ما بعد على إثر عملية تبادل.
منذ اللقاء الأول مع د. وديع حداد ناقل قضية فلسطين إلى العالمية، ومؤسّس مدرسة العنف الثوري وصاحب مقولة " وراء العدو في كل مكان "، أصبحت تلك الوجهة وجهة ماهر اليماني المفضّلة. فقاتل وقاوَم واشتبك واستمرّ وصمَد ولم يتبدّل.
مضى الرجل الصامِت إلى صمتِ النهاية. وبقيت خلفه الحكاية، وبقي تلامذته يحملونها ويطوفون بها العالم كي يعودوا إلى فلسطين الكاملة.
فور عِلمي بنبأ رحيل رفيقي وصديقي ماهر كتبت :
وأخيراً ترجّل القائد الميداني ماهر اليماني، الفارس الوطني الكبير، الثوري، الفدائي، إبن المخيم وكل فلسطين، ترك خلفه تاريخاً عظيماً في حركة المقاومة الفلسطينية يشهد عليه وله.
ماهر اليماني يرحل صلباً كصوّان سحماتا في الجليل، وقوياً كما عرفناه على مدى مسيرة العمل الوطني العسكري والأمني والسياسي والاجتماعي الطويل. يمضي كما جاء ببساطة إبن البلد، بطيبة إبن القرية والمخيم. بشهامة القائد الذي كان قدوة لمَن عملوا تحت قيادته.
يرحل بعدما أضناه المرض العُضال ... يرحل وفيّاً لشعبه ولقضيّته، التي قاتل وناضل لأجلها منذ كان فتى، يانعاً، قويّ الشكيمة، وفولاذيّ الإرادة. بفضله ومعه رفاقه الشهداء الذين ركبوا الطائرات العالمية والصهيونية، واحتجزوها ليظهروا للعالم المُنحاز عدالة قضيّتنا. بفضل هؤلاء الأبطال ورفيقاتهم الشهيدات والأسيرات والمناضلات وصلت قضية فلسطين إلى كل العالم. حدث ذلك كله تحت قيادة المعلّمين الشهيدين الدكتورين وديع حداد وجورج حبش في سنوات الستينات والسبعينات من القرن الفائت.

عرفته منذ بدأت العمل فدائياً تحت قيادته في القطاع الأوسط في الجنوب اللبناني، وكانت تلازمه في القواعد ثلّة من المناضلين الفدائيين الفلسطينيين والعرب والأمميين. منهم الشهداء: اللبناني أحمد أمين، السوري أبو الرائد الأشقر والعراقي جيفارا العمارة، وغيرهم من الثوريين الذين جاؤوا من المحيط ومن الخليج ومِن خلفهما. فكنت ترى هناك التونسي، المغربي، البحريني، الإمارتي، اليمني، العُماني، الأرتيري، الكردي، الإيراني، الأفريقي، الآسيوي والأميركي اللاتيني والأوروبي، السوري، العراقي، اللبناني، المصري، الأردني والفلسطيني ... مناضلون ثوريون فدائيون من كل بلاد العرب.
كان ماهر اليماني، الأسد الهمام كما قال عنه القائد الأسير أحمد سعدات، كان قائداً لقواعد أممية، ثورية، مقاتلة، على خط المواجهة الأول مع الصهاينة وعملائهم في الجنوب اللبناني.
كان قريباً إلى الجماهير وبالذات الفلاحين من أهل القرى والبلدات، ومحبوباً من قِبَل أهالي المخيمات. عمل بصمتٍ ودونما ضجيج، قلّل من الكلام وقنّن من الحديث، فمَن يعمل لا يتكلّم. هكذا كان هو الشعار الذي تعلّمه في مدرسة القائد الشهيد وديع حداد، مدرسة وراء العدو في كل مكان. فكما عرفته القواعد والجبهات والمواجهات، كذلك عرفته السجون والمُعتقلات العالمية والعربية. ورغم سنوات السجن والاعتقال بقيّ قوياً ولم يتزحزح عن خندق المقاومة.
بعد سنوات العمل الميداني في الجنوب اللبناني وعلى حدود فلسطين الشمالية، انتقل للعمل سكرتيراً، مرافقاً للزعيم، الحكيم جورج حبش. بقيَ يعمل في تلك المهمة النضالية حتى الخروج من بيروت المُحاصرَة سنة 1982. بعد ذلك تابع نضاله بنفس الروح والعزيمة والهمّة والإرادة والقوّة والانتماء والتفاني.
التقيت به مرات عديدة في لبنان وسوريا في السنوات ال 15 الأخيرة. وكان آخر لقاء جمعني به في مخيم مار الياس في بيروت سنة 2018. أي قبل مرضه بقليل أو خلال فترة مرضه اللعين.
ماهر ينتمي إلى عائلة فلسطينية مناضلة تعود لبلدة سحماتا الجليلية الفلسطينية، بعد النكبة التجأت إلى مخيم البداوي شمال لبنان. عائلته قدّمت الشهداء والقادة والمناضلين على درب تحرير فلسطين، شقيقه الأول محمّد استشهد في أول عملية عسكرية فدائية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحركة القوميين العرب. وشقيقه الآخر أبو ماهر اليماني واحد من أهم القادة المبدئيين والتاريخيين الذين أنجبتهم فلسطين بعد نكبة عام 1948. اشقاؤه الآخرون مناضلون مبدئيون، ناكرون للذات، تماماً كما كان ماهر وكما كان المعلّم الراحل أبو ماهر اليماني.

بداية الشهر الجاري وأثناء المرحلة الحرِجة التي أُدخل على إثرها ماهر العناية المركّزة في المستشفى وجّه له الرفيق الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أحمد سعدات من سجنه الرسالة القصيرة التالية:
(عشت بين رفاقك قائداً شجاعاً قوي الشكيمة لم تعرف لليأس طريقاً، ولم تسمح له أن يتسلّل إليك يوماً، فكنت الرجل الشامخ المُنتصب على أعمدة الإرادة والقوّة والصلابة والمعنوية. هكذا عرفناك وستظلّ كذلك في أعين وقلوب رفاقك الذين أحبّوك فأنت القائد الذي تستحق عن جدارة لقب الأسد الهمام الذي يضاعف قوّة جيشه في أصعب المحكات والدروب والمحطّات، ويشيع فيه الإصرار والتماسك واليقين بحتمية الانتصار).

أستطيع القول إننا اليوم خسرنا واحداً من أفضل قادتنا الفدائيين الثوريين.