نسفٌ جديد لادّعاءات حرية الصحافة والإعلام الأميركي

اليوم تنشغل وسائل الإعلام الأميركية بالحديث عن أغنى رجلٍ في العالم، ومالك صحيفة ال "واشنطن بوست"، التي اعتنت بنشر مقالات الصحافي جمال الخاشقجي وكل ما تعلّق بمقتله، فقد تعرّض السيّد "جيف بيزوس" للابتزاز من صحيفةٍ صفراء تعود ملكيّتها إلى صديقٍ مُقرّب من الرئيس دونالد ترامب

لطالما تغنّى الساسة الأميركيون بالحديث عن الولايات المتحدة الأميركية كسيّدة أولى

لطالما تغنّى الساسة الأميركيون بالحديث عن الولايات المتحدة الأميركية كسيّدة أولى ورائدة في عالم الديمقراطية والحريات، وعلى رأسها حرية الصحافة والإعلام، ولم يتوانوا يوماً عن توظيف غالبية وسائل إعلامهم لصالح أجهزة استخباراتهم، وإداراتهم المتعاقبة، ورؤسائهم، وشخصياتهم العامة والخاصة، واستطاعوا فرض هيمنةٍ خاصة لإعلامهم على كامل الإعلام الدولي والعالمي، وحوّلوا أنفسهم إلى مصادر رئيسية للأحداث والأخبار، فكانوا قبل الحدث وصنعوا الحدث، وحدّدوا زوايا رؤيته، وما على العالم سوى الإستهلاك ... فرسموا الأحداث والشخصيات ووضعوا أساسات وأرضيات لكل الحبكات ووجّهوا وحرّفوا وخدعوا الناس ، وقدّموا "الحقيقة" على قياس مصالحهم وتسويقاً  لسياساتهم تحت عنوان حرية وإبداع الإعلام الأميركي... يا لها من أكذوبة!.

واليوم تنشغل وسائل الإعلام الأميركية بالحديث عن أغنى رجلٍ في العالم، ومالك صحيفة ال "واشنطن بوست"، التي اعتنت بنشر مقالات الصحافي جمال الخاشقجي وكل ما تعلّق بمقتله، فقد تعرّض السيّد "جيف بيزوس" للابتزاز من صحيفةٍ صفراء تعود ملكيّتها إلى صديقٍ مُقرّب من الرئيس دونالد ترامب ، وقد ذكر "بيزوس" أن الصحيفة هدّدته بنشر صوَره الفاضِحة مع عشيقته إذا لم يتوقّف عن التحقيق في كيفيّة اختراق الصحيفة لهاتفه المحمول وحصولها منه على بعض الصوَر الخاصة ، وتلك الصوَر التي تتحدّث عن علاقته بالمملكة العربية السعودية - المعني الأول بقضية الخاشجقجي-.

في الوقت الذي تجري فيه السلطات الأميركية تحقيقاً  موسّعاً، حول قيام مالكي الصحيفة الصفراء، والذين طالبوا السيّد بيزوس عبر رسالة بريدٍ الكتروني، بالتوقّف عن التصريح العَلني وعن الادّعاء أن الصحيفة تهاجمه لهدفٍ سياسي، أو صادر عن جهةٍ سياسية! ... لكن "بيزوس" اعتبرها رسالة ً غبية، وقرّر نشرها وفضحهم وفضح كل مَن يقف وراءهم، ومَن يسعى لابتزاز وإسكات أغنى رجل في العالم.

ومن اللافت أن تهتم المملكة السعودية بالموضوع، وينبري "عادل الجبير" لنفي وجود أية علاقة للسعودية بقضية التجسّس على "جيف بيزوس" عبر الصحيفة الصفراء، التي سبق لها أن نشرت مُلخّصاً  عن وليّ عهد السعودي قبيل زيارته الأخيرة للولايات المتحدة...

ومن المُلاحظ أن قصّة الإبتزاز هذه، تلتقي بالذاكرة مع حادثة إبتزازٍ مُشابهة تعرّض لها "روبرت مردوخ" مالك صحيفة وول ستريت جورنال، عقب نشر صحيفته سلسلة تحقيقات صحفية تفضح فيها شركة  طبية اعتمدت على تسويق الصحيفة لمنتجاتها عبر ادّعاءات وإعلانات كاذِبة عن فعالية أجهزتها، وحصدت أرباحاً  طائلة، في الوقت الذي رفض فيه مالك الصحيفة التدخّل في سياسة الصحيفة عِلماً  أنه من أكبر المساهمين في الشركة الطبية المعنية.

ما من شك، بأن حصّة هذه القصّة ستكون كبيرة مع وسائل الإعلام الأميركي وغيره، فالقضية ترتبط بتعقيدات وبطبيعة التفاصيل المُعلَنة لمقتل الصحافي السعودي، وبتشعّباتها السياسية الدولية، وذلك لارتباطها المباشر بعدّة دول، كتركيا والسعودية، وبأجهزة إستخبارات عدد كبير من الدول والتي قد يتحنّب الإعلام ذِكرها أو الحديث عنها، إما لحساسية القضية، أو لتداعيات وخطورة نتائجها ...

ويبقى السؤال، هل ستؤثّر عملية إبتزاز مالك ال "واشنطن بوست" على مجمل قضية مقتل الخاشقجي وتحقيقاتها، وربط نتائجها من جهةٍ بمواقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي حاول الدفاع عن وليّ العهد السعودي وتعطيل مشاريع إتهامه المباشر بها، وإحجامه وتلكؤه عن فرض العقوبات على المملكة بحجّة صفقات الأسلحة التي أبرمها معها بتلريونات الدولارات، وربطها من جهةٍ أخرى بقضية الرئيس ترامب في الإنتخابات السابقة وعلاقته مع الروس؟

من الواضح أن الغموض يلفّ القضية، على الرغم من قيام السيّد بيزوس بنشر تفاصيل الرسالة، الأمر الذي قد يرى فيه البعض أنه عملٌ شجاع، على الرغم من احتمالية أن يكون تصرّفه خطراً  على مصالحه وربما على حياته....

لكن، يبقى من الثابت، إن تشدّق الولايات المتحدة حيال حرية الصحافة والإعلام أمرٌ مشكوكٌ في نزاهته وحياديته، ويبقى تسييس وسائل الإعلام الأميركية، من أهم الأساليب التسويقية لسياسات الإدارات الأميركية المتعاقبة وادّعاءاتها وأكاذيبها، لأجل خدمة مشاريع سطوتها وهيمنتها وعدوانها على الدول وعلى بعض الشخصيات الفاعلة أو المؤثّرة، بما فيها تلك التي تتحوّل إلى ضحايا للسياسات الأميركية، والذين تعتبرهم وقوداً  شديدة التوهّج عند أزوف لحظة إضرام النيران فيها.