خفايا الانسحاب الأميركي من سوريا
لا شك بأن الانسحاب الأميركي المُزمَع من سوريا لاقى الكثير من الاستغراب، خاصة إذا ما نظرنا إلى المسارات السياسية والعسكرية التي انتجتها الحرب على سوريا، يُضاف إلى ذلك، بأن التوقيت الأميركي جاء صادماً للأدوات الأميركية في الشرق الأوسط، فالتعويل كان على بقاء القوات الأميركية ريثما يتمّ استنزاف الدولة السورية وحلفاءها، ليتمّ في مرحلة لاحقة فرض التقسيم وطرح أجندات انفصالية تجعل من الدولة السورية ولسنواتٍ طويلةٍ تدخل في نفق الاقتتال.
لكن الواضح أن ما حقّقه الجيش السوري وحلفاؤه لم يعط الفرصة لواشنطن وأدواتها بالاستمرار بالخطط التي من شأنها إرهاب وإرهاق الدولة السورية سياسياً وعسكرياً، حيث أن وجود حلفاء أقوياء ساهم إلى حدٍ ما في ضعضعة الخطط الأميركية وتقويض مفاعيلها، لكن يأُخذ في الحسبان كلام الرئيس الأميركي دونالد ترامب حين قال: "نحن الآن نقضي على تنظيم داعش، سنغادر سوريا مبكراً جداً، وسرعان ما سنخرج منها ونعود إلى الوطن في القريب العاجل، إلى المكان الذي ننتمي إليه"، لكن ما حقّقه الجيش السوري أفرغ الحجج الأميركية من مضمونها، حيث ذريعة واشنطن للبقاء في سوريا والقضاء على "داعش" أصبحت من الزمن الماضي، ولم يعد أحد يصدّق هذه الذريعة حتى أميركا نفسها، لذلك نجد اليوم سلسلة تغييرات جديدة تقوم بها واشنطن، هذه التغييرات عبارة عن سلسلة من الاستراتيجية الأميركية الرامية لاستمرار حال التوتّر والغليان ليس في سوريا فحسب، بل في الشرق الأوسط كاملاً.
المُتابع للشأن السوري يُدرِك بأن روسيا وإيران حلفاء أقوياء، وقد ساهموا إلى حد كبير وعبر البوابة السورية في كسر المخطّطات الأميركية، فضلاً عن إحباط النظريات الأميركية بالسيطرة والتوسّع، لكن الوجود الإيراني في سوريا يشكّل مصدر قلق بالغ للإسرائيلي والأميركي، وبحسب التسريبات التي جاءت بمجملها انطلاقاً من أن التواجد الإيراني في سوريا هو صلب المشكلة السورية، وذلك بحسب التسريبات، عليه لابدّ من ترتيب المشهد السوري بعيداً عن إيران، وضمن هذه المُعطى يبدو أن هناك توافقاً روسياً أميركياً إسرائيلياً على هذه القضية، فقد نشرت "قناة الميادين" وثيقة و نقلاً عن القناة العاشرة الإسرائيلية، أن هناك صفقة روسية أميركية بشأن سوريا وإيران، وقد سُمّيت هذا الصفقة بـ"وثيقة بتروشيف"، و قد نقلت القناة العاشرة إن مسؤولين إسرائيليين كباراً اطّلعوا على التفاصيل وكانوا على عِلم بمحتوى الوثيقة، لكن رئيس الحكومة رفض الاقتراح، وأوضحت أن نقلت إلى إسرائيل في اللقاء الذي عُقِد في موسكو في 13 أيلول/ سبتمبر، أي قبل أربعة أيام من إسقاط الطائرة الروسية "أيل" في سوريا والذي أدّى إلى أزمة خطيرة في العلاقات بين إسرائيل وروسيا.
المسؤولون الإسرائيليون الكبار أشاروا إلى أن روسيا اقترحت أن تكون إسرائيل كوسيط بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية، وتشجيع البيت الأبيض على ترميم العلاقات مع الكرملين، يُضاف إلى ذلك أن مسؤولاً أشار إلى أن الروس طلبوا من (إسرائيل) أن تفتح لصالحهم الباب في واشنطن من أجل حوار مع ترامب، مشيرين إلى أنها تتضمّن النقاط التالية:
- تجميد الخطة الأميركية لفرض عقوبات اقتصادية مشدّدة على إيران في بداية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر كجزء من الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي.
- تعهّد روسي بإخراج القوات الإيرانية والموالية لها من سوريا.
- خروج القوات الأميركية من سوريا وإخلاء قاعدة التنف.
- فتح حوار بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا بشأن المسألة الإيرانية بشكل عام.
- استغلال الحوار في مسألة سوريا وإيران لتحسين العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية.
من الجدير بالذكر أنه حتى الآن لم يتسنّ لنا التأكّد من مصداقية هذه الوثيقة، ولا يمكن بأية حال من الأحوال أن نأخذها على محمل الجدّ، فروسيا و إيران حلفاء على الصعد كافة، و إن كانت هناك تسريبات تؤكّد أن خلافات برزت في الآونة الأخيرة بين البلدين خاصة في ما يخصّ سوريا، لكن الثابت في العلاقة بين البلدين أنهما حليفان استراتيجيان، فضلاً عن وجود علاقات اقتصادية قوية بينهما، يُضاف إلى ذلك أن روسيا تتبع استراتيجية احتواء الأطراف كافة، وتقوم بتنسيق الرؤى ومحاولة توحيدها، للوصول إلى صيغة توافقية تُرضي جميع الأطراف الفاعِلة في سوريا، وبذلك تمنع روسيا انجرار المنطقة إلى حربٍ تُشعل الشرق الأوسط، وما الاستراتيجية الروسية إلا السبيل لإنهاء الحرب على سوريا، والبدء بحل سياسي يُجنّب الدولة السورية وشعبها المزيد من الويلات.
الانسحاب الأميركي المُفاجئ من سوريا يفتح باب التكهّنات على مصراعيه، ولعلّ المُستهدَف الأول من هذا الانسحاب هو إيران، وربما سيستمر الدور القذر لأردوغان في سوريا تلبية للمطالب والخطط الأميركية، لكن وبحسب ما يمكن استنتاجه من خلال سنوات الحرب على سوريا، بأن الدولة السورية وجيشها قادران على نسج شبكة علاقات قوية ومتينة لا يمكن اختراقها، وبالتالي نحن أمام حلف سياسي عسكري اقتصادي متين، وهذا الحلف قادر على ضعضعة أيى خطط أميركية تركية إسرائيلية، والمناورات الروسية بشقّيها السياسي والعسكري تصبّ مباشرة في صالح الحلف، على اعتبار أن روسيا باتت قطباً منافساً ومتفوّقاً على الولايات المتحدة، والقادم من الأيام سيكون مُثقلاً بالتطوّرات.