روسيا وتركيا في مواجهة الحلم الأميركي شرق الفرات
مرحلة جديدة بأبعادٍ استراتيجيةٍ تلوح في أفق الشرق السوري، حيث أن الهواجِس المُتزايدة جرّاء الخطط الأميركية بعيدة المدى شرق سوريا، قد ذهبت في جزئيّاتها بعيداً في عُمق نظرية النفوذ والسيطرة، وكنتيجةٍ طبيعةٍ للرفض الروسي والتركي للمساعي الأميركية الرامية إلى تعزيز النفوذ في الشرق الأوسط.
محاولة الإنفراد في اتّخاذ القرارات الإقليمية والدولية، لابدّ من كَبْحِ الجموح الأميركي المُخلّ بالتوازُنات، في مقابل سعيّ روسي لتحقيق توازن قوى في الشرق الأوسط الذي يختزل بامتداده المشهد الدولي. حيث أن كافة الخطوات السياسية والعسكرية التي اتّخذتها روسيا في سياق استراتيجيتها، إنما تسعى إلى تعزيز حضورها في الشرق الأوسط، وجَذْب تركيا إلى منظومة علاقاتها، وضرب الخطّة الأميركية لفرض مشروع الشرق الأوسط الجديد، والذي يحمل في تداعياته الهيمنة على مُقدّرات الشعوب ونهْب الثروات فضلاً عن تفكيك التحالفات، وإعادة صوغها خدمة لمصالح واشنطن ومصالح الكيان الإسرائيلي.
اتفاق أستانا قُدِّر له أن يكون مساراً سياسياً لقطع الطريق على أيّ تغيير في السياسة الأميركية تجاه سوريا. خاصة أن واشنطن استشعرت خطورة مُنجزات الجيش السوري والتي لا تصبّ إطلاقاً في مصلحة الخطط الأميركية. لتُبدي واشنطن إثر ذلك استعدادها لاستخدام القوّة ضدّ الدولة السورية وجيشها، وبالتالي فإن مضامين أستانا تسعى إلى الحد من التهوّر الأميركي.
في سياق ذلك، تبدو قمّة سوتشي والتي جمعت الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيّب أردوغان، قد حملت في تفاصيلها مؤشّرات عدّة تتجاوز في جزئيّاتها موضوع إدلب، لترقى بذلك إلى مرحلةٍ جديدةٍ في العلاقات الأميركية التركية، قوامها المواجهة وبشكلٍ علني وواضحٍ شرق الفرات، وبهذا تكون روسيا قد وضعت إسفيناً بين واشنطن وأنقرة، انطلاقاً من القلق التركي حيال الدعم الأميركي للكرد، وعدم تمكّن واشنطن في مقابل ذلك من تبديد الهواجس التركية المُتزايدة حيال الموقف الأميركي المُبهَم تجاه سوريا. خاصة في ما يتعلّق بموضوع دعم الكرد، حيث إن واشنطن تمسك العصا من الوسط في هذه المعادلة، وتحوّل الكرد إلى حصان طروادة عندما تجد أنها بحاجة لذلك. وتجعلهم كبش فداء حين يصبح المناخ السياسي في الشمال السوري لا يتوافق مع مصالحها، ليأتي تصريح الرئيس التركي حاملاً معه بوادر صِدام مع الأميركي قد يكون ضرورياً وفق مُقتضيات المرحلة السياسية والعسكرية. فقد قال أردوغان إن "أنقرة ستُطلق عملية شرقي نهر الفرات في شمالي سوريا خلال أيا"، مُضيفاً "سنبدأ العملية لتطهير شرق الفرات من الإرهابيين الانفصاليين خلال بضعة أيام، هدفنا لن يكون أبداً الجنود الأميركيين". في مقابل تصريح أميركي جاء على لسان المُتحدّث بإسم وزارة الدفاع الأميركية "إن أيّ إجراء أحادي الجانب لأيّ طرف شمال شرقي سوريا يمثّل مصدر قلق شديد وغير مقبول"، وحذّر من أنه "قد يعرّض القوات الأميركية في المنطقة لمخاطر".
تركيا وروسيا تجتمعان على ضرورة القضاء على الطموح الأميركي شرق سوريا. خاصة أن تركيا قد خَبِرت المُراوغة الأميركية المُتمثّلة في تأخير تنفيذ اتفاق منبج بين واشنطن وأنقرة، ما تسبّب بإحباطٍ تركي نتيجة المُماطلة الأميركية، حيث كانت تركيا تأمل أن يشهد الأول من أيلول الفائت تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق منبج، وهو ما لم يتمّ حتى الآن نتيجة التسويف الأميركي، فضلاً عن استمرار تقديم الدعم للوحدات الكردية، ما يشي بتعاظم قوّة الكرد في تلك المنطقة، وهذا يُعتَبر في القاموس التركي تهديداً لأمنها القومي، وبالتالي لابدّ من التحرّك لوأد هذه القوّة قبل ولادتها، مع ما تحتويه المغامرة التركية من مخاطر جمَّة قد تودي بالعلاقات التركية الأميركية في وأد الخلافات السياسية الحادّة.
أما روسيا فلديها أيضاً هواجس جمَّة جرّاء السياسة الأميركية شرق الفرات، خاصة أن واشنطن قد أعلنت وفي مناسبات عدّة أنها تريد الانسحاب من سوريا، لكن النفاق الأميركي مُتبدّل بتبدّل المُخطّطات، لتعود التصريحات الأميركية وتؤكّد ضرورة البقاء في سوريا إلى أجلٍ غير مُسمّى. ليعود ترامب ويقرّر سحب القوات الأميركية من شمال شرق سوريا خلال 60 إلى 100 يوم، وهنا منبع القلق الروسي والسوري على السواء. ليكون الردّ الروسي مع الأنباء التي انتشرت في ما يخصّ نشر منظومة الدفاع الجوّي "S-300" في دير الزور شرق سوريا، وذلك بحسب ما ذكر موقع ديبكا الإسرائيلي، حيث نقل الموقع عن مصادر عسكرية يوم الإثنين 10 من ديسمبر/كانون الأول، أن وزارة الدفاع الروسية أمرت بنقل كتيبة من الصواريخ المُضادّة للطائرات مع مُشغّلين روس من منطقة مصياف غربي حماة إلى دير الزور، كما أشار الموقع إلى أن الكتيبة مُجهّزة بثماني قاذفات، وتضمّ ما بين 50 إلى 70 صاروخاً.
الواضح أن التحرّكات الأميركية شرق الفرات تحمل في مضامينها تهديداً مباشراً لروسيا وتركيا، الأمر الذي سيُساهم في إنتاج ردود أفعال غير واضحة النتائج. والتي من الممكن أن تصل إلى مرحلة المناوشات العسكرية المحدودة، وبالتالي فإن روسيا وتركيا متّفقتان على وضع الأميركي في زاوية الأمر الواقع، أو الانجرار إلى المزيد من التعقيدات السياسية والميدانية. لنكون أمام مرحلة يبدو أنها ستحمل معها الكثير من التداعيات والتي لن تصبّ إلا في مصلحة الدولة السورية وجيشها، فما يجري اليوم سيكون كفيلاً في ضعضعة تحالفات أعداء سوريا، وسيكون هناك مُتّسع من الوقت لإعادة التموضع السوري، ليُصار في مرحلةٍ لاحقةٍ إلى القفز نحو شرق الفرات وتطهيره.