وهَّاب ليس الخاشقجي!
حدثَ يوماً عشيةَ إحتجاز رئيس الحكومة اللبنانية في السعودية أنْ استفزَّ وزير الداخلية حينها مقولة "المبايعة" فصرّح قائلاً إن في لبنان الأمور لا تجري في هذا الشكل، نحن ننتخب ولا نُبايع، ما يشبه هذا المشهد حصل بالأمس مع الوزير السابق وئام وهاب الذي كانت تنقص حملةُ جلبِهِ منشار عظم كي يكتمل المشهد.
فالوزير وهاب على ما يبدو أُريد له أن يكون الخاشقجي اللبناني الذي يجب إسكاته، لأنه يحكي ما يريده الشعب، الشعب الذي يعيش الغليان في داخله لوقوعه بين أمرين أحلاهما مُر، إما أن يخرج إلى الشوارع وينتفض لإنقاذ وطنه من أيدي الفساد الجاثم على صدر ديمقراطيته منذ فتح لبنان الحديث عينيه على العالم، فيخلق الفوضى ويدخل في المجهول، أو أن يسكت فحسب ويشاهد الإقتصاد المتدهور والبيئة الملوّثة والتعطيل الذي لا نهاية له في تركيبة الحكم.
آخر ما كان الرئيس المكلّف بحاجة إليه هو إسكات المنتقدين له أو حتى المتجاوزين لحدود الأدب السياسي والمقامات الوطنية بالقوّة، فالحريري الشاب الذي يظهر دائماً بمظهر المتواضع الذي يخاطب الشارع بلغته وعفويّته قد أحدث ردّة فعلٍ أعادت إلى الأذهان مشهد دخول الخاشقجي إلى السفارة وعدم خروجه منها.
ومنذُ متى في لبنان بلد الثقاقة والحرية والديمقراطية تتحرّك آليات عسكرية وجنود من أية مؤسّسة أمنية كانت لجلب وزير أو نائب أو صحافي أو صاحب رأي، منذ متى في لبنان بلد القنوات والإذاعات والكتب والمجلات تقف البندقية في وجه الكلمة، في بلد الكنائس والمساجد والمعابد وحتى مراكز الإلحاد.
لقد أصبح ثقيلاً الرأي الحر، وكثيرة هي المقدّسات التاريخية والسياسية والإجتماعية والدينية التي تخنق حرية التعبير أو الإشارة إلى منظومة الفساد، حتى تكاد تصبح مهمة صاحب الرأي كمَن يمشي في حقل ألغام ممنوع فيه لمس المقدّسات الاَّ المُقَدَس الأكبر والأوحد والأهم وهو الشعب!
كيف يتحوّل لبنان إلى ما يشبه أثينا القديمة شخصيات الحكّام فيه كما الآلهة معصومة عن الإنتقاد والخطأ. أو كيف يُراد له نسخ تجربة الممالك وأنظمة الشخص الواحد التي تحرِّم المساس بشخصية الحاكِم مهما كان الفساد ظاهراً في أدائها لِذي عَيْنَين.
تجربة محمّد بن سلمان لا يمكن تطبيقها في لبنان، ليس لأن وليّ العهد لا يشبه أحداً بل لطبيعة الشعب اللبناني، للإرث التاريخي الذي يحمله اللبناني في داخله الذي ينتقد حين لا يعجبه أداء الحكومات أو الأنظمة، بالأمس تحوّلت تراشقات وإتهامات بين الوزير السابق والرئيس المكلّف إلى إستخدام الأخير القوّة عبر الإيعاز للنيابة العامة بإرسال مؤسّسة رسمية للدولة اللبنانية لجلب الوزير للإستماع إليه لدى القضاء، المشهد الذي أعاد مشاعر الخوف لدى الرأي العام اللبناني ليس الذين هم في الجهة المقابلة بانتماءاتهم لفريق الرئيس المكلّف فحسب، بل للجميع على حدٍ سواء وشكل نقطة ضعف لمَن يأمل أن يكون السلاح جميعه في أيدي الدولة لحماية الجميع، فإذا به هذا السلاح تُزعجه انتقادات وزير سابق اتهم الرئيس المكلف بتغطية المفسدين في البلد.
هذا ليس كل الأمر، بل الحساسية التي تشكلها منطقة جبل لبنان التي كانت المنطلق الأساس عبر التاريخ لإعلان الجمهورية اللبنانية الحديثة الموحّدة بعد ضمّ اقضية الساحل إليها، هذا الجبل الذي عاش الصراع الطائفي على مدى تطوّر العصر السياسي اللبناني منذ الإمارة والمتصرفية والجمهورية وحتى الحرب الأهلية، كان آخر ما يحتاح إليه آليات عسكرية مُدرّعة مضادّة للرصاص وجنود من جهاز أمني مُشكّل في الأساس لمحاربة الإرهاب من أجل جلب وزير سابق للإدلاء بشهادته أمام قاضي التحقيق بقضية تحقير أو ذم، عادة ما تتولاّها محكمة المطبوعات وغالباً ما بإمكان المدّعى عليه أن يتمثّل من خلال محاميه وإن كان هذا المشهد يخوِّف اللبنانيين من طريقة تعامل رئيس الحكومة المكلّف في حال شكّل حكومته في القريب العاجل مع خصومه السياسيين.
في حين تتزايد النقمة الشعبية على واقع النظام اللبناني الهشّ الطائفي القديم الذي ما عاد ليتناسب ووضعية العيش المشترك، حيث أن المواطنين في ساحات العمل جميعها منسجمون إلى ما لانهاية لا يفرّق بين علاقاتهم نَفَس طائفي أو ديني، بينما النظام الذي يعيش بعيداً عن واقع الشعب يختلق الفتن الطائفية في سبيل المحافظة على مكاسب الحاكمين بدل أن تكون الدولة هي عامل الإطفاء لحرائق الطائفية.
ويوماً بعد يوم تشعر الأحزاب اللبنانية الحاكمة ضرورة تغيير سياساتها من أجل احتواء نقمة الشعب، في حين لا يمكن لشخصيات أن تكون متواجدة في الواقع السياسي اللبناني إلى ما لا نهاية، وهذا التفصيل ليس معناه انتقاصا من شخصية حاكمة تدير البلاد بل في ضرورة مُحاكاة الشخصيات الحاكمة في طريقتها لواقع التطوّر الإجتماعي والثقافي والفكري والتكنولوجي المتجدّد والمُتغيّر باستمرار لدى الجيل الجديد.
إن وضع لبنان الإقتصادي والسياسي أصبح مُريباً بمكان كأن القوة العالمية تحاول إحباطه لتعيد سيطرتها عليه من جديد، وحرية الرأي والتعبير كانت في جوهر الشخصية المُثقفة للمواطن اللبناني والتي تعرف جيدا ما يُراد لها وما يحدث في العالم والإقليم، وربما كانت حكمة الشعب وثقافته ودرايته بما يجري من حوله هي التي تحمي البلاد من الانفجار الطائفي وإنَّ مواجهة الكلمة بالرصاص لم تكن يوماً لِلُبنان بلد الحرف والرأي وحرية التعبير.