الكرسي تاريخها مع عصر الخمول
مع حلول منتصف القرن التاسع عشر تحوّلت القصة بالكامل. ذكرت رواية تشارلز ديكنز "المنزل الكئيب" الكراسي 187 مرة. ما الذي تغيّر؟
تأليف الدكتور فيبار كريجان ريد. جامعة كنت
ترجمة: إبراهيم عبدالله العلو
سمّي الجلوس حديثاً "بالتدخين الجديد" ونعلم جميعاً أن الجلوس لفترات طويلة على الكراسي مضرّ بصحتنا فهي غير صحية وتشبه تلوّث الهواء من حيث صعوبة تفاديها.
عندما بدأت البحث لتأليف كتابي"التغيّر البدائي" والذي يناقش كيفية تغيير العالم الذي صنعناه لأجسادنا فوجئت بندرة الكراسي في الأزمان الغابرة. واليوم تتواجد الكراسي في كل مكان: المكاتب والمقاهي والقطارات والمطاعم والحانات والسيارات وقاعات الحفلات ودور السينما والمسارح والمدارس وقاعات المحاضرات في الجامعات وعيادات الأطباء ومنازلنا.
وإذا طلب مني تقدير عدد الكراسي الموجودة في العالم بشكل متحفّظ أعتقد أن الرقم لا يقلّ عن 8 إلى 10 كراسٍ لكل شخص. وبتطبيق ذلك المنطق يكون في العالم أكثر من 60 مليار كرسي. وبالتأكيد يجب أن تكون الكراسي إحدى العلامات العالمية لوصول عصر الأنثروبوسين(عصر الإنسان المُهيمن).
وتتواجد في كل قارة حالها حال البيانات اللازمة لتبرير تغيير الحقب الجيولوجية .
ولكن لماذا انتشرت الكراسي بتلك الكثرة بشكل مُفاجئ؟ في الحقيقة لا يوجد جواب صريح على ذلك التساؤل.
وهو مزيج من العادات الرائِجة والسياسة وظروف العمل المتغيّرة وشغفنا بالراحة. و لا تحتاج تلك الأخيرة لتفسير في حضارة أصبحت فيها الراحة واليُسر أقوى الموجّهات لصنع القرار لدى المُستهلك.
تاريخ الكراسي
بدأت الكراسي بالظهور بتواتر بسيط في بواكير العصر الحديث ولكنها أصبحت أكثر شعبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر خلال الثورة الصناعية.
وقبل القرن الثامن عشر توفّر الكرسي ولكن معظم السكان لم يحتاجوا لإستخدامه. وكان الجلوس على كرسي خشبي قاس لفترات طويلة من الوقت متعباً حتى في هذه الأيام، وكانت الكراسي المنجّدة مرتفعة السعر بشكلٍ لا يُطاق.
ولكن موضة الكرسي المُريح الجديد الذي استورد من فرنسا في القرن الثامن عشر ساعد على إنتشار الكراسي مبكراً وساهم في زيادة شعبيتها.
ارتبطت الكراسي قبل عدّة عقود بالسلطة والغنى والمكانة الرفيعة. وندر استخدامها بين الفلاحين ندرة استخدامهم للتاج.
وهناك توجيه مسرحي في المرحلة الأولى من الملك لير حيث يدخل الملك محمولاً في كرسي على أكتاف الخدم. ولا شك أن فكرة الكراسي كرمز للمكانة تستمر لغاية اليوم. وحتى في تخصّصي الأكاديمي تكون أرفع مرتبة هي "كرسي". وحتى الشخص الذي يدير الإجتماع يسمّى"كرسي". وحتى رئيس الشركة أو رئيستها يسمّى "سيّد الكرسي". وصحيح أنه معلوم على نطاق عالمي أن أفضل كرسي في أيّ مبنى مكتبي يخصّ دائماً الرئيس.
تزامن إنتشار الكراسي بين العامة وخاصة بُعيد الثورة الفرنسية وقوانين الإصلاح الكبرى في بريطانيا عام 1832 مع تغيّر بطيء في أنماط العمل. كان مجمل العمل الذي ينجز في العصر الفيكتوري عملاً يدوياً أو في المعامل.
ولكن مع نهاية القرن التاسع عشر ومع وصول الموجة الثانية من الاختراعات التكنولوجية بابتكارات مثل الآلة الكاتبة والتلغراف والاستخدام المتزايد للكهرباء بدأ سوق العمل بالتغيّر. وكانت المجموعة الجديدة من الموظفين المكتبيين أسرع قطاعات العمل نمواً في النصف الثاني من تلك الحقبة. وبيّنت الإحصائيات عام 1851 قيام 44000 شخص بأعمال إدارية ولكن خلال عقدين من الزمن ارتفع العدد إلى 91000 فرد.
عالم كسول
يشكّل العمال الكسالى اليوم الأغلبية كما تنامت خلال القرن العشرين حزمة من النشاطات الخاملة الأخرى لتتواءم مع أنماط حياتنا الجديدة.
انتشرت قراءة الروايات بشكل كبير خلال القرن التاسع عشر وتبعتها نشاطات مريحة أخرى مثل السينما والراديو والتلفاز.
ومؤخراً ألعاب الفيديو والمشاهدة والتصفّح كلها نشاطات تلزمنا بالجلوس. واحتاج إنسان عصر الأنثروبوسين إلى كراسٍ للقيام بتلك" النشاطات" هذا إن كانت تستحق مسمّى نشاطات.
وإذا كانت الحياة الحديثة تقدّم لنا باقة من السلوكيات الخاملة فالكراسي هي عيدانها. وهي ضرورية للإنخراط في الحياة الحديثة ولا يمكن تخيّل القيام بمعظم ما نفعله من دونها. اقترحت الأبحاث التي قامت بها المؤسّسة البريطانية للقلب أننا نقضي يومياً 9.5 ساعة في الجلوس. ويعني ذلك أن البشر في أيامنا خاملون لـ 75% من الوقت. وثمة مشاكل عديدة يؤدّي إليها ذلك الخمول.
تقوم أجسادنا بفعل ما بوسعها لتكون الجسم الذي نريد. ويختصر قانون وولف وقانون دافيس الأمر "استخدمه أو تفقده." بالنسبة لنسج الجسد الصلبة والطرية على التتالي.
وفي كلا الحالين تخبرنا بأن العضلات أو العظام سوف تستجيب للأحمال المتزايدة أو لانعدام الاستخدام. تصبح العظام أرقّ أو أكثف والعضلات أقوى أو أضعف. ولا غرابة أن يؤدّي الجلوس لفترات طويلة، ومعظم العضلات في ظهورنا متراخية وهي مرتاحة في كرسي، إلى أن يصبح ألم الظهر السبب الأول للإعاقة على مستوى العالم.
وبما أننا نمتلك بيئة أنثروبوسينية يصحّ تصنيفنا بشر الأنثروبوسين.
توفى معظم البشر في العصر الحجري القديم أثناء طفولتهم. كان العنف والجروح أكثر أسباب الوفيات شيوعاً في الأعمار اللاحقة. أما البشر اليوم فيموتون غالباً بسبب أمراض إستقلابية مثل داء السكري النمط الثاني وأمراض القلب وبعض السرطانات والتي ترتبط بشدّة بالخمول وتحديداً باستخدام الكرسي.
كشفت دراسة أجريت عام 2012 على آثار الخمول عبر تجميع بيانات 7813 من النساء اللائي جلسن 10 ساعات في اليوم وجود تيلومرات(القسيمات الطرفية للكروموزمات) أقصر(دلالة على الشيخوخة الخلوية) . وسبقت سلوكيات حياتهن الخاملة الشيخوخة بمقدار 8 سنوات وتقترح دراسات أخرى أن آثار الجلوس لفترات طويلة لا يمكن تعديلها بقليل من التمارين.
وتشهد هذه الدراسات وغيرها بضرورة مراجعة تفكيرنا حول مزيد من الاستثمار في علاقة حبنا الجديدة نسبياً والطاغية علينا مع الكرسي.