طرطوس وآثار الحرب المُدمِّرة
طرطوس لم تكتف بتقديم الشهداء دفاعاً عن سوريا، بل استقبلت المحافظة ضعف إمكانيّتها من النازحين السوريين من مختلف المحافظات الأخرى، ربما يكون النازحون السوريون في طرطوس هم الوحيدون الذين لم يشعروا بقسوة النزوح، والسبب في ذلك لأن أهالي طرطوس فتحوا لهم بيوتهم وتقاسموا معهم رغيف العيش ورحّبوا بهم في وقتٍ لم تكن المدينة بأفضل حال، كانت الدموع تنهال في كل ساعة عندما تأتي جنازة شهيد من أهالي طرطوس ملفوفة بالعَلَم السوري.
أثناء وبعد كل حرب، تصبح صوَر الشهداء ومشاهِد الحزن من الأمور الطبيعية في أيّ مجتمعٍ كان، وسوريا التي عانت منذ عام 2011، من صراعٍ داخلي مُسلّح بتحريكٍ من عدّةِ أطرافٍ خارجيةٍ لإسقاط منطق الدولة والذهاب صوب المجهول بتذلّل وانبطاح للأجنبي، قدَّمت خيرة شبابها من مختلف المحافظات والأديان والطوائف التي تتواجد في البلاد، فما دُمِّر من أبنية سكنية ومناطق بأكملها ومعامل والكثير من البنى التحتية الأخرى يمكن أن يعود وبصورةٍ أفضل من السابق طالما تتوافر الإرادة لذلك، لكن الذي لايمكن أن يُرمَّم أو يعود هو الإنسان السوري الذي سقطَ دفاعاً عن بلده ووجوده.
كل المحافظات السورية قدَّمت شهداء، سواء كانوا مُقاتلين في صفوف الجيش السوري أو من المدنيين في حربٍ شعواءٍ أحرقت الأخضر واليابس ولم تُفرِّق بين صغيرٍ وكبيرٍ، وفتحت الأبواب أمام المُتطرّفين من جميع بِقاع الأرض للدخول إلى سوريا والقتال فيها، لكن في طرطوس الصورة تختلف بعض الشيء عن باقي المحافظات، في المحافظة الساحلية الصغيرة هي الوحيدة التي لم تشهد في مركزها أو ريفها أعمالاً مسلّحة تخريبية أو أي تواجد لمُسلّحين بوجه الدولة، وهذا يعني أن البنى التحتية في طرطوس لم تتعرَّض للضَرَر جرّاء الحرب، عدد نفوس أهالي طرطوس في آخر إحصائية عام 2004، كان 700,000 نسمة، وهي من أصغر المحافظات وأحدثها عهداً بعدما قسّمت من محافظة اللاذقية في عام 1972.
طرطوس قدَّمت خلال سنوات الحرب أكثر من 200,000 شهيد، وهو عدد كبير جداً قياساً بعدد نفوس المدينة وريفها، أكثر المشاهِد المؤلِمة عندما تتجوَّل في شوارع طرطوس، إنك لا تشاهد شباباً، هي صوَر الشهداء تملأ الشوارع، أعداد كبيرة من الشباب تركوا عوائل بأكملها تواجه مصاعب الزمن، وقبل الأزمة السورية كانت الأعراس والأفراح تجوب المدينة الصغيرة في كل أسبوع، هذه الحال تغيّرت الآن، فقد تشاهد عرساً واحداً في الشهر أو ربما لا تشاهد أساساً، ولم تتبقّ جدران في المدينة تكفي لتعليق صوَر الشهداء، فمَن يتواجد في أسواق وشوارع المدينة هم من دون سن الـ18 من الطلبة أو فوق سن 40، بالإضافة إلى النساء والأطفال والعَجَزة، وربما في طرطوس تتجسّد أبرز مُفارقات الأزمة السورية، فمُذهل جداً أن تشاهد في الكثير من المحافظات أثار الحرب المُدّمرة على البيوت والمؤسّسات الحكومية التي كانت تحت سيطرة المُسلّحين، لكن الصادِم والآثار المُدمِّرة فعلاً هي عندما تشاهد مدينة قدَّمت السواد الأعظم من خيرة شبابها دفاعاً عن التراب السوري في مختلف ساحات القتال.
طرطوس لم تكتف بتقديم الشهداء دفاعاً عن سوريا، بل استقبلت المحافظة ضعف إمكانيّتها من النازحين السوريين من مختلف المحافظات الأخرى، ربما يكون النازحون السوريون في طرطوس هم الوحيدون الذين لم يشعروا بقسوة النزوح، والسبب في ذلك لأن أهالي طرطوس فتحوا لهم بيوتهم وتقاسموا معهم رغيف العيش ورحّبوا بهم في وقتٍ لم تكن المدينة بأفضل حال، كانت الدموع تنهال في كل ساعة عندما تأتي جنازة شهيد من أهالي طرطوس ملفوفة بالعَلَم السوري.
ما أكتبه بحق طرطوس لا يعني المُزايدة على الدماء السورية الأخرى التي سالت في سبيل تحرير الأرض السورية، لكنه فعلاً ما قدّمته طرطوس من شهداء تستحِق لقب مدينة الشهداء بجدارة، ومع أن المُسلّحين لم يحتلوا شبراً واحداً من طرطوس لكن هذه المحافظة ستكون أول المُحتفلين بتحرير كامل سوريا بعد معركة إدلب التي تُعتَبر الأخيرة والحاسِمة في قادم الأيام.